قد وردت
روايات كثيرة في أنّ الأئمّة عليهم السلام تبرّؤوا عن هذه الأقاويل والعقائد ،
ونحن نذكر بعضها ، وهي على طوائف :
منها : ما ورد
في بطلان القول بالصدور والترشّح والتطوّر .
عن مولانا
أبي الحسن الرّضا عليه السلام أنّه قال لابن قرّة النّصرانيّ : « ما تقول في
المسيح » ؟ قال : يا سيّدي! إنّه من اللّه . فقال : « وما تريد بقولك من ؟ ومن
على أربعة أوجه لا خامس لها : أتريد بقولك من كالبعض من الكلّ فيكون مبعّضا ، أو
كالخلّ من الخمر فيكون على سبيل الاستحالة ، أو كالولد من الوالد فيكون على سبيل
المناكحة ، أو كالصّنعة من الصّانع فيكون على سبيل المخلوق من الخالق ، أو عندك
وجه آخر فتعرفناه . . » فانقطع .(198)
أقول
:
هذا الحديث الشّريف نصّ على أنّ ما سوى اللّه تعالى ليس قائما بذاته تعالى على
سبيل الصدور والترشّح والفيضان ولا تكون نسبة الأشياء إلى الخالق تعالى إلاّ نسبة
الخالقيّة والمخلوقيّة لا نسبة العينيّة والسّنخيّة والعلّيّة التطوّريّة .
وعن
مولانا وسيّدنا سيّد الشّهداء عليهالسلام في تفسير قوله تعالى : «لم يلد»قال : «
لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين ، ولا
شيء لطيف كالنّفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسنة والنوم . . . تعالى أن يخرج منه
شيء وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف . . . مبدع الأشياء وخالقها ومنشئ الأشياء
بقدرته » .(199)
قال
القاضي سعيد القمّي في شرحه : فالقول بأنّ المبدء هو الوجود بلا شرط ، و« أمره »
هو الوجود بشرط لا أو بالعكس ، والمعلول هو الوجود بشرط شيء ، وكذا القول بأنّ
المبدأ هو الوجود الشخصيّ المتشخّص بذاته الواقع في أعلى درجات التشكيك المشتمل
على جميع المراتب السافلة . وبالجملة فالقول بكون المعلول عين العلّة بالذات وغيره
بالاعتبارات السلبيّة ، وكذا القول بالجزئيّة سواء كانت من طرف العلّة أو المعلول
، أو القول بالأصليّة والفرعيّة ، والقول بالسنخيّة أو الترشّح أو العروض سواء كان
الأخير من جهة العلّة أو المعلول ، والقول بالكمون والبروز وما يضاهي ذلك ، على حد
الشّرك والكفر . وكلّ ذلك تولّد معنويّ وتناسل حقيقيّ وموجب لتهوّد القائل به
ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه حيث قالت اليهود : «عزير ابن اللّه» والنصارى :
«المسيح ابناللّه» ، هذا مع قيام البراهين القواطع على بطلانها ، وشروق الدلائل
السواطع على إمحائها . أحدها أنّه يلزم على تلك التقادير أن يكون المبدأ الأوّل
علّة مادّية للكلّ . . (200)
أقول
:
فانظر ـ يا أخي ـ إلى كلام من كان من أساطين الفلسفة والعرفان وسلك مسلكهم في بعض
المقامات ، كيف اعترف وحكم فيهم ـ أي الفلاسفة والعرفاء ـ بهذه التّعرّضات ، وقال
بأنّ الاعتقاد بالسنخيّة والترشّح ووحدة الوجود و . . على حدّ الشرك والكفر والقول
بها موجب لتهوّد القائل به ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه .
ولنعم ما
قيل :
در خانه اگر كس است
|
يك حرف بس است(201)
|
فهذا
الحديث نصّ على أنّ الصدور من الذات والترشّح منها يساوي التولّد المحال في حقّه
سبحانه ، والقول بوحدة الوجود يكون قولاً بأنّ اللّه سبحانه والد ، لصدق الولادة
على خروج كلّ شيء .
وعن أبي
عبد اللّه الصّادق عليهالسلام : « سبحان اللّه الّذي ليس كمثله شيء ، ولا تدركه
الأبصار ، ولا يحيط به علم ، «لم يلد» لأنّ الولد يشبه أباه ، «ولم يولد» فيشبه من
كان قبله ، «و لم يكن له» من خلقه «كفوا أحد» تعالى عن صفة من سواه علوّا كبيرا »
.(202)
أقول
:
لا يخفى أنّ الصدور هو الولادة لا غير ، مضافا إلى أنّ المستفاد من قوله تعالى : «
ليس كمثله شيء »(203) أمران :
أحدهما
: يدلّ على نفي شيء مثله .
وثانيهما
: يدلّ على وجود شيء ليس مثله وإلاّ لكان الكلام لغوا وغير مفيد ، فالمعنى هو أنّ
ما هو غيره ليس مثله ، فالتوحيد الّذي نعتقده هو مفاد « ليس كمثله شيء » لا مفاد
ليس شيء غيره ، ولا مفاد لا شيء غيره ، كما عليه العرفاء الصّوفيّة .
فلو كان
التوحيد هو نفي الغير ولا شيء غيره وليس في الدار غيره ديّار ، فلا يجوز أن يقال :
«ليس كمثله شيء» الموهم لوجود غيره غير المماثل له تعالى ، وأن يعبّر بجملة كانت
ظاهرة في نفي المثل والشريك ، وهذا خلاف الفصاحة والبلاغة كما أفيد .
وهذا
البيان يجري في الأخبار الدالّة على نفي التشبيه والسنخيّة وغيرهما كما هو واضح
ولائح وهو مقتضي العبوديّة والربوبيّة أي مقتضى الإيمان بكوننا عبيدا للّه تعالى
وكونه ربّا لنا وللخلائق أجمعين .
عن يونس
بن بهمن قال : قال لي يونس : اكتب إلى أبي الحسن عليهالسلام ، فاسأله عن آدم هل
فيه من جوهريّة اللّه شيء . قال : فكتبت إليه ، فأجاب : «هذه المسألة مسألة رجل
على غير السنّة» .(204)
عن
يونس بن عبد الرحمن ، أنّه قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليهالسلام ، سألته عن
آدم هل كان فيه من جوهريّة الرّب شيء ؟ فكتب إليّ جواب كتابي : « ليس صاحب هذه
المسئلة على شيء من السنّة ، زنديق » .(205)
أقول
:
هذان الحديثان أيضا نصّان في ما ذكرناه أي لا يكون ما سوى اللّه صادرا وفيضا من
ذاته تعالى .
عن مولانا
أبي الحسن الرضا عليهالسلام : « لا يتغيّر اللّه بانغيار المخلوق كما لا يتحدّد
بتحديد المحدود » .(206)
أقول
:
لا يخفى أنّ مرجع التطوّر والتشؤّن إلى التغيّر والانقسام في العقل والوهم ، بل
الوجود العيني الّذي أشار إليه أميرالمؤمنين عليهالسلام في بيان معنى الواحد حيث
قال عليهالسلام : « . . لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم . .» .(207)
وعن
أبي الحسن الرضا عليهالسلام : « . . يوحّد ولايبعّض . .» .(208)
وعن أبي
جعفر عليهالسلام : « . . إنّ اللّه تبارك وتعالى خلو من خلقه وخلقه خلو منه . .»
.(209)
أقول
:
يستفاد من قوله عليه السلام : « خلو من خلقه » بطلان الترشّح ووحدة الوجود ، كما
يستفاد من قوله : « خلقه خلو منه » بطلان القول بانبساطه تعالى على هياكل
الموجودات كما سيأتي بيانه .
عن أبي
الحسن الرضا عليهالسلام : « هو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد
الّذي لم يلد ولم يكن له كفوا أحد . منشئ الأشياء ومجسّم الأجسام ومصوّر الصّور ،
لو كان كما يقولون لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ ، لكنّه المنشئ
، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه وبينه ، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا »
.(210)
عن
مولانا أبي الحسن الرضا عليهالسلام في مناظرته مع عمران الصابيّ قال عمران : يا
سيّدي ! ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا شيء غيره ولا شيء معه أليس قد
تغيّر بخلقه الخلق ؟ قال الرضا عليهالسلام : « لم يتغيّر عزّ وجلّ بخلق الخلق
ولكن الخلق يتغيّر بتغييره . . . قال عمران : يا سيّدي ! فإنّ الّذي كان عندي أنّ
الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق ، قال الرضا عليهالسلام : « أحلت ـ
يا عمران ـ في قولك أنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتّى يصيب الذّات منه ما
يغيّره » . . . قال عمران : لم أر هذا ، ألا تخبرني يا سيّدي أهو في الخلق أم
الخلق فيه ؟ قال الرضا عليهالسلام : « جلّ ـ يا عمران ـ عن ذلك ، ليس هو في الخلق
ولا الخلق فيه ، تعالى عن ذلك ، وسأعلّمك ما تعرفه به ، ولا حول ولا قوّة إلاّ
باللّه » .(211)
عن
الصّادق عليهالسلام أنّه قال ـ حيث سئل عن وجوده تعالى بذاته في كلّ مكان ـ : «
ويحك ! إنّ الأماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول أقدار وغير ذلك ،
ولكن هو بائن من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا » .(212)
وعنه
عليهالسلام : « ويحك ! كيف تجترئ أن تصف ربّك بالتّغيّر من حال إلى حال ، وأنّه
يجري عليه ما يجري على المخلوقين » .(213)
وعن
أميرالمؤمنين عليهالسلام : «ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيما ، ولا
بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا وعظم سلطانا » .(214)
ومنها : ما ورد في
امتناع ذاته تعالى عن أن تدرك
عن مولانا
الصّادق عليهالسلام : « . . فإن قالوا : أوليس قد نصفه ؟ فنقول : هو العزيز
الحكيم الجواد الكريم قيل لهم : كلّ هذه صفات إقرار ، وليست صفات إحاطة ، فإنّا
نعلم أنّه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه ، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته . . » .(215)
وعن
أميرالمؤمنين عليهالسلام أنّه قال : « . . ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه وعن
الأفهام أن تستغرقه . . » .(216)
وعنه
أيضا : « . . قد ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام ؛ لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب
البشر بالتفكير . . » .(217)
وعنه
عليهالسلام أنّه قال : « . . ردعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية
ملكوته . . » .(218)
وعنه
عليهالسلام أنّه قال : « . . قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول . . » .(219)
إنّ
الّذي يقال فيه تعالى : « مثبت ، موجود ، لا مبطل ولا معدود . . »(220)
« وأنّه شيء موجود فقط » (221) ، « ومن يزد عليه ويقول : ما هو وكيف هو
فقد هلك . . » (222) .
وعليه
، فالعلم بالوجود لا يلازم العلم بالذّات حتّى يقال : كيف يعلم وجوده ولا يعلم
ذاته ، كما عن مولانا الصّادق عليهالسلام حيث قال : « . . ليس علم الإنسان بأنّه
موجود موجب له أن يعلم ما هو وكيف هو . . » .(223)
وعن
أميرالمؤمنين عليهالسلام أنّه قال : « . . لا يقال له ما هو لأنّه خلق الماهيّة .
. » .(224)
وعن
الإمام الصادق عليهالسلام : « . . سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو . . » .(225)
فالمعرفة
الحقّة بل غاية ما يمكن أن يقال في التّعريف والتوصيف بالنسبة إلى ذاته تعالى :
أنّه مثبت موجود وشيء بحقيقة الشيئيّة ؛ لأنّه لو لم يكن شيئا لم يكن موجودا ، ولو
لم يكن موجودا لكان موهوما ، ولكن لا كالأشياء ؛ لأنّه لو كان كالأشياء لكان مصرفا
محدودا ، فكان إذن حادثا لا يمتنع من الحوادث .(226)
وبعبارة
أخرى : غاية ما يقال في باب معرفة اللّه تعالى على ما يستفاد من الأدلّة أمران :
أحدهما : الخروج
عن حدّ التعطيل ؛ بمعنى : الإيمان والاعتقاد بوجوده وثبوته تعالى بما له من الحياة
والعلم والقدرة وغيرها من الكمالات في مقابل النّفي لوجوده تعالى أو لإحدى
الكمالات . وهذا أوّل درجة المعرفة به تعالى .
ثانيهما : الخروج
عن حدّ التشبيه ؛ بمعنى : المعرفة والاعتقاد بأنّه تعالى لا يشبه شيئا من
المخلوقين ، وأنّه مباين لهم في جميع أوصافهم ومنزّه عنها .
وقد ورد
عن أبي عبد اللّه عليهالسلام أنّه قال : « . . اعلم ـ رحمك اللّه ـ أنّ المذهب
الصّحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه جلّ وعزّ ، فانف عن اللّه
تعالى البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه . هو اللّه الثابت الموجود ، تعالى
اللّه عمّا يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان . . » (227)
فهذا
نزر يسير من الأخبار الكثيرة الواردة في أنّه تعالى خارج عن الحدّين ـ حدّ التعطيل
وحدّ التّشبيه ـ وأنّه لا يجوز التفكّر والتكلّم والخوض في ذاته تعالى ، وأنّه
تعالى لا يدرك بالحواس الظاهرة والباطنة وبالعقول والعلوم والأفهام وتوهّم القلوب
. فالأخبار الدالّة على النهي عن الخوض والتكلّم والتعمّق والتفكّر في ذاته سبحانه
واكتناهه تعالى تدلّ على بطلان المقالات الّتي قدّمناها من العرفاء والفلاسفة .
ثمّ إنّ
القول بأنّه سبحانه ( وجود ) هو إخبار عن حقيقة ذاته تعالى ، وتعيين كنهه سبحانه
بحقيقة الوجود الّتي هو حقيقة جميع الأشياء عندهم ـ بالرشح والفيضان أو التطوّر
والتجلّي ـ ممنوع عقلاً وشرعا .(228)
وفرق
بين القول بأنّه تعالى موجود ، ثابت ، محقق كما في الأخبار ، والقول بأنّه سبحانه
وجود ؛ لأنّ الأوّل إخبار عن كونه شيئا حقيقيّا لا موهوما ولا باطلاً بخلاف الثاني
فإنّه إخبار عن معرفة كنهه وحقيقة ذاته سبحانه كما سيأتي بيانه .(229)
ومنها : الأخبار
الدالّة على أنّه سبحانه أبدع وخلق وأوجد العالم لا من شيء ، والقول بأنّ العالم
عينه تعالى أو مرتبة من مراتب وجوده ينافي الإبداع والخلق والايجاد بالبداهة .
فليس ما
سوى اللّه صادرا عن ذاته حتّى يكون جزءه أو كلّه أو مرتبة من مراتب وجوده أو
تطوّره .
ومنها : الأخبار
الواردة في أنّه سبحانه لا يشبه شيئا من المخلوقين ، إذ هو مباين لهم في ذاتهم
وأوصافهم ، ومنزّه عن مجانسة مخلوقاته .
وهذا هو
العمدة في معرفة اللّه تعالى وبه تمتاز المعارف الإلهيّة الحقّة عن غيرها من
المعارف البشريّة .
وغير ذلك
من الإشكالات الواردة على مقالة العرفاء والفلاسفة كما سيأتي إن شاء اللّه تعالى
.
والعجب
العجاب من قول بعضهم : إنّ القول بأنّ للأشياء وجودا حقيقيّا أقرب إلى دعوى : شركة
الممكن مع الواجب في الوجوب وكون الممكن واجبا ، وهو كفر من حيث لا يشعر .(230)
وما
لي لا أعجب من أنّ اللّه سبحانه وتعالى حكم بكفر النصارى ولعنهم وطردهم وإبعادهم
لأجل قولهم بحلوله في عيسى عليهالسلام فقط ، فكيف بمن يقول بحلوله في جميع
الأعيان والأكوان حتّى الكلاب والخنازير ، أو بإتّحاده معها ، أو بأنّه تعالى عين
جميع الأشياء وليس في الخارج إلاّ وجود واحد وهو عين الأشياء فيلزم أن يكون المبدء
عزّ اسمه عين الحيوانات النجسة و . . تعالى اللّه عمّا يصفه الظالمون علوّاً
كبيراً ، ونعوذ باللّه ثمّ نعوذ باللّه من هذه الأقاويل والأباطيل .
والشّيخ
علاء الدولة السمنانيّ ـ مع غاية غلوّه واعتقاده في ابن العربيّ ، حتّى أنّه خاطبه
في حواشيه على الفتوحات بقوله : أيّها الصدّيق ! أيّها المقرّب ! وأيّها الوليّ !
وأيّها العارف الحقّانيّ ! ـ كتب على قول ابن العربيّ في الفتوحات : ( سبحان من
أظهر الأشياء وهو عينها )(231) ما لفظه : إنّ اللّه لا يستحيي من
الحقّ ، أيّها الشيخ ! لو سمعت من أحد أنّه يقول : فضلة الشيخ عين وجود الشيخ ، لا
تسامحه البتّة ، بل تغضب عليه ، فكيف يسوغ لك أن تنسب هذا الهذيان إلى الملك
الديّان ؟ ! تب إلى اللّه توبة نصوحا لتنجو من هذه الورطة الوعرة الّتي يستنكف
منها الدهريّون والطبيعيّون ! والسّلام على من اتّبع الهدى .
أقول :
انظر إلى الأدلّة الّتي ذكرناها في المقام والأخبار الكثيرة الّتي بين يديك وذكرت
نزرا منها في هذه الرسالة وكلمات الفقهاء العظام ، المروّجين لدين سيّد الأنام
وأئمّة الكرام عليهم آلاف التحيّة والسلام ـ كما سنذكر كلمات بعضهم في باب مستقل
إن شاء اللّه تعالى ـ حتّى تعلم أيّ القولين أقرب إلى الشّرك ، القول بوحدة
الخالق والمخلوق أو كونهما موجودين حقيقيّين أحدهما خالق والآخر مخلوق ؟ !
ويعجبني
أن أذكر حديثا روي عن مولانا وسيّدنا وهادينا أبي عبد اللّه الصّادق عليهالسلام
حيث قال : لعن اللّه المعتزلة ، أرادت أن توحّدت فألحدت ، ورامت أن ترفع التشبيه
فأثبتت .(232)
أقول
:
كفى في فضيحة القوم ذهابهم إلى ما عليه معظم النصارى مع أنّ المحذور اللازم
لأتباعهم لازم لأتباع هؤلاء ، لجريان العلّة المذكورة فيهم .
ونحن نقول
: إنّ اللّه تبارك وتعالى جلّ أن تكون حقيقته من سنخ مخلوقاته كما ورد عن مولانا عليّ
بن موسى الرّضا عليهماالسلام : « بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره
الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته
بين الأشياء عرف أن لا قرين له » .(233)
والمفهوم
من هذا الخبر وغيره من الأخبار هو البينونة الذّاتية بينه سبحانه وبين ما سواه من
الممكنات .
وعنه
عليه السلام : « كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم » .(234)
والمفهوم
منه ـ أيضا ـ بينونة الكائن القديم عن الكائن الحادث ، والموجود غير المسبوق
بالعدم عن المسبوق بالعدم .
وعنه
عليه السلام : « . . بل أنشأته ليكون دليلاً عليك بأنّك بائن من الصنع » .(235)
وعنه
عليه السلام : « التّوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد ، والواحد المتباين الّذي
لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء » .(236)
وعنه
عليهالسلام : « حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها إبانة لها من شبهه وإبانة له
من شبهها » .(237)
وعنه
عليهالسلام : « فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من
صانعه » .(238)
وعنه
عليهالسلام : « . . وكنهه تفرقة بينه وبين خلقه » .(239)
وعن
ثامن الحجج عليهالسلام : « من وصف اللّه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية
على اللّه » .(240)
وعن
سيّدالشهداء عليهالسلام : « . . أنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين وهو الواحد
الصمد ، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه » .(241)
وعن
أميرالمؤمنين عليهالسلام : « فمعاني الخلق عنه منفيّة . . . المعروف بغير كيفيّة
، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالنّاس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار
، ولا تقدّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، فكلّ ما قدّره عقل أو عرف له مثل
فهو محدود » .(242)
وتأمّل
في هذه الأحاديث الّتي تنادى بأعلى صوتها على توحيد الخالق تعالى والتفريق بينه
وبين خلقه ، وأنّه سبحانه متعال عن المقدار والعدد والحدود و . . ومبائن لكلّ شيء
ومنزّه عن مجانسة مخلوقاته .
وهؤلاء
الفلاسفة والعرفاء وقفوا في قبالهم عليهم السلام وبالغوا في الإنكار والمكابرة
والمعارضة وأصرّوا في جعله عزّ وجلّ عين خلقه ، زاعمين أنّ ذلك عين التوحيد مع
أنّه عين الجحود والتشريك والإلحاد . وملاك التشبيه الّذي اقتضت الضرورة العقليّة
والنقليّة بعدمه هو هذه العينيّة والسنخيّة .
فإن كنت
قد اكتحلت عين بصيرتك بنور أخبار آل محمّد صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين يظهر
لك حال من قال : إنّ الذات الإلهيّة هي الّتي تظهر بصور العالم ، وأنّ أصل تلك
الحقائق وصورها تلك الذات ، وأنّها هي الّتي ظهرت في الصّورة الجوهريّة المطلقة
الّتي قبلت هذه الصّور .(243)
وقال
: فكلّ ما تدركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات .(244)
وقال
: إنّ اللّه تجلّى لي مرارا وقال : انصح عبادي ! .(245)
وقال
: فإنّ الوجود منه أزليّ ومنه غير أزليّ وهو الحادث ، فالأزليّ وجود الحقّ لنفسه ،
وغير الأزليّ وجود الحقّ بصور العالم الثابت فيسمّى حدوثا ، لأنّه يظهر بعضه لبعضه
، وظهر لنفسه بصور العالم ، فكمل الوجود وكانت حركة العالم حبيّة للكمال .(246)
أو
من قال : إنّ واجب الوجود تمام الأشياء وكلّ الموجودات ، وعقد لذلك فصلاً مستقلاً
.(247)
وبعد
مراجعة العقل والوجدان والفطرة وأخبار العترة عليهمالسلام كقولهم : « من شبّه
اللّه بخلقه فهو مشرك » .
أو قولهم
: « من وصف اللّه بوجه كالوجوه فقد كفر . . » .
ما تقضي
وتحكم في القائل بهذه المقالات ؟ !
نعم : «
من التمس الهدى في غيره ـ القرآن ـ أضلّه اللّه » .(248)
وقد
قال اللّه تعالى : «فلا تضربوا للّه الأمثال إنّه يعلم وأنتم لا تعلمون»(249)
.
وقال
: «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» .(250)
وقال
: «من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون» .(251)
وقال
: «إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » .(252)
وقال
: « إنه من يشرك باللّه فقد حرّم اللّه عليه الجنّة ومأواه النّار » .(253)
وقال
: « ومن يشرك باللّه فكأنّما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في
مكان سحيق » .(254)
وهذه
الآيات وغيرها تبيّن المقصود بوضوح .
الهامش:
(198)
المناقب 4 / 351 ، بحارالأنوار 10 / 349 حديث7 .
(199)
التّوحيد : 91 حديث5 ، بحارالأنوار 3 / 224 حديث14 .
(200) شرح
توحيد الصّدوق 2 / 66 .
(201)
هذا من الأمثال المشهورة الّتي ترجمتها : لو كان في الدار ديّار لكفى كلمة واحدة .
(202)
التوحيد : 104 حديث19 ، بحارالأنوار 3 / 304 حديث42 .
(203)
الشورى : 11 .
(204)
رجال الكشيّ : 492 حديث942 ، بحارالأنوار 3 / 292 حديث11 .
(205)
رجال الكشيّ : 495 حديث950 ، بحارالأنوار 3 / 292 حديث12 .
(206)
التوحيد : 37 حديث2 بحارالأنوار 4 / 229 حديث3 .
(207)
التوحيد : 84 حديث3 ، بحارالأنوار 3 / 207 حديث1 .
(208)
التوحيد : 47 حديث9 ، بحارالأنوار 3 / 297 حديث23 .
(209)
التوحيد : 105 حديث3 ، 4 ، 5 ، بحارالأنوار 3 / 263 حديث20 .
(210)
التوحيد : 185 حديث1 ، عيون الأخبار 1 / 127 حديث23 ، بحارالأنوار 4/173 .
(211)
التوحيد : 433 ، عيون الأخبار 1 / 171 ، بحارالأنوار 10 / 312 .
(212)
التوحيد : 133 حديث15 ، بحارالأنوار 3 / 323 حديث20 .
(213)
الاحتجاج 2 / 408 ، الكافي 1 / 131 حديث2 ، بحارالأنوار 10 / 347 و55 / 15 .
(214) نهج
البلاغة : 269 ، الاحتجاج 1 / 204 ، بحارالأنوار 4 / 261 حديث9 .
(215)
توحيد المفضّل : 177 ، بحارالأنوار 3 / 147 .
(216)
التوحيد : 70 حديث26 ، عيون الأخبار : 1 / 121 حديث15 ، بحارالأنوار 4 / 222 حديث2
و87 / 138 حديث7 .
(217)
التوحيد : 51 حديث13 ، بحارالأنوار 4 / 275 حديث16 .
(218) نهج
البلاغة : 217 ، بحارالأنوار 4 / 317 حديث42 و61 / 323 حديث2 .
(219)
التوحيد : 70 حديث26 ، بحارالأنوار 4 / 222 حديث2 .
(220) كما
عن الإمام الصادق عليهالسلام أنظر : التوحيد : 140 حديث4 ، بحارالأنوار 4 / 68
حديث12 .
(221)
أنظر : توحيد المفضّل : 179 ، بحارالأنوار 3 / 148 .
(222)
لاحظ : بحارالأنوار 3 / 264 .
(223)
توحيد المفضّل : 180 ، ولاحظ : بحارالأنوار 3 / 148 .
(224)
روضة الواعظين 1 / 38 ، بحارالأنوار 3 / 297 حديث24 .
(225)
الكافي 1 / 104 حديث1 ، بحارالأنوار 3 / 290 حديث5 ، التوحيد : 98 ، حديث4 .
(226)
لاحظ : الأخبار الدالّة على أنّه تعالى خارج عن الحدّين ( حد الابطال وحدّ التشبيه
) .
(227)
الكافي 1 / 100 حديث1 ، التوحيد : 102 حديث15 وص228 ، بحارالأنوار 3 / 261 حديث12
و5 / 31 حديث39 .
(228) وقد
ورد عنهم عليهمالسلام : « ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا
إيّاه عنى من شبّهه » . [ نهج البلاغة : 273 ، خطبة 186 ، أعلام الدين : 59 ] .
(229)
لاحظ : الرابع والخامس ممّا يترتّب على القول بوحدة الوجود من المفاسد .
(230)
رسالة لقاء اللّه ، الملكي التبريزيّ : 127 .
(231)
الفتوحات 2 / 604 .
(232) كنز
الفوائد 1 / 126 ، بحارالأنوار 5 / 8 حديث8 .
(233)
الكافي : 1 / 139 حديث 4 ، التوحيد : 37 حديث 2 ، الاحتجاج 2 / 400 ، بحارالأنوار
4 / 229 حديث 3 ، وص 305 حديث 34 ، و74 / 313 حديث 14 .
(234) نهج
البلاغة : 40 ، الاحتجاج 1 / 199 ، بحارالأنوار 4 / 247 حديث5 .
(235)
بحارالأنوار 99 / 167 .
(236)
بحارالأنوار 3 / 223 .
(237)
الكافي 1 / 135 حديث1 ، التوحيد : 42 حديث 3 ، بحارالأنوار 4 / 269 حديث 15 .
(238)
التوحيد : 40 ، عيون الأخبار 1 / 153 ، الاحتجاج 2 / 400 ، بحارالأنوار 4 / 230 .
(239) تحف
العقول : 63 ، لاحظ بحارالأنوار 4 / 228 ، والاحتجاج 2 / 399 ، والتوحيد : 36 .
(240)
تفسير العيّاشيّ 1 / 373 حديث79 ، بحارالأنوار 4 / 53 حديث29 .
(241) تحف
العقول : 244 ، بحارالأنوار 4 / 301 حديث29 .
(242)
التوحيد : 79 حديث34 ، بحارالأنوار 4 / 294 حديث22 .
(243) شرح
فصوص الحكم للقيصريّ : 70 .
(244)
المصدر : 234 .
(245)
المصدر : 244 .
(246)
المصدر : 457 .
(247) الأسفار
6 / 110 .
(248)
تفسير العيّاشيّ 1 / 3 حديث2 ، وبحارالأنوار 89 / 25 .
(249)
النحل : 74 .
(250)
الأنعام : 103 .
(251)
المائدة : 44 .
وعنه
عليهالسلام : « كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت » .
[ مستدرك
الوسائل 17 / 244 حديث7 ، عوالي اللآلي 2 / 161 حديث446 ] .
(252)
النساء : 48 .
(253)
المائدة : 72 .
(254)
الحج : 31 .