بعد ذكر دعوى اهل العرفان الباطل بأن ساسل الصوفية ترجع الى امير المؤمنين صلوات الله عليه حيث ينقل عن لب اللباب مانصه:(«حقيقة العرفان مأخوذة من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب ، والطرق التي نشرت هذه الحقيقة وإن جاوزت المئة أخيراً، ولكن أُصول طوائف التصوّف لا تزيد على خمس وعشرين سلسلة، وهذه السلاسل تنتهي جميعاً بعلي بن أبي طالب ، وفرقتان أو ثلاث فرق منهم شيعة وباقي الفرق جميعاً سنّة، وبعضهم تنتهي سلسلته إلى معروف الكرخي، ومنه إلى الإِمام الرضا ، ولكن طريقتنا وهي نفس طريقة المرحوم الآخوند لا تنتهي إلى شيء من هذه السلاسل.)
وبعدها ينقل قصة مشهورة وهي قصة السيد التستري والحائك ثم يعلق السيد كاظم الحائري قائلا:
فأقول: لا شكّ أنّ عليّ بن أبي طالب هو سيّد العارفين وكهفهم وملاذهم وإمامهم وإمام المؤمنين، وأقصد بذلك العرفان بالمعنى الوارد في قوله في دعاء كميل: «يا غاية آمال العارفين» لا بالمعنى الذي ناقشناه حتّى الآن، وأتساءل أنّ عليّ بن أبي طالب لو كان على رأس نحو من خمس وعشرين سلسلة للصوفيّة على ما ورد في لبّ اللباب فلماذا انتخب أكثرهم من السُنّة حسب ما مضى من قوله في لبّ اللباب: (أن فرقتين أو ثلاثاً منهم شيعة والباقي سنّة) وهلاّ علّم هذا الطريق ميثم التمار وصعصعة بن صوحان العبدي ورشيد الهجري(1) وكميل بن زياد وأصبغ بن نباتة والحجر بن عديّ الكندي(2) وأمثالهم من أعاظم أصحابه رحمهم الله.
إنّ الحقيقة ليست هكذا، بل الحقيقة: أنّ التصوّف دكّان فتحه أعداء عليّ وأعداء الأئمّة في مقابل أئمّتنا المعصومين; ذلك أنّ الشيطان لا يستطيع أن يُغري ـ ابتداءً ـ كلَّ أحد عن طريق الخمور أو النساء أو الملاهي أو ما إلى ذلك، فلربّ إنسان لا يأنس إلاّ بالمسجد، فطريق حرفه عن الحقِّ هو بناء مسجد ضرار، ولربّ إنسان لا يستذوق إلاّ العرفان، فطريق حرفه عن جادّة الحقِّ هو اختلاق العرفان الكاذب. ومن نقاط القوّة في أئمّتنا الجاذبة للنفوس الطيّبة كان هو العرفان الإلهيّ الشامخ المضيء الذي يشعّ شيء يسير منه فيما وصلنا من اليسير من
أدعيتهم وكلماتهم المضيئة والتي أشرنا إلى نزر منها في النقطة الرابعة، فكان لا بدّ للشيطان أن يفتح دكّاناً في مقابل الأئمّة باسم التصوّف، وكان خير مناخ لتأسيس هذا الدكّان هو مناخ غير الشيعة; لأنّ الشيعة غالباً كانوا مكتفين بالأضواء الحقيقيّة التي تشع من أئمّتهم ، ولهذا لا ترى أثراً من هذا الدكّان لدى الشيعة في أوائل الأمر، وإنّما انحدر هذا الطريق إليهم واستهوى بعضهم بعد ما تمّ تأسيسه وتشييد بناءه لدى غيرهم.
وبودّي أن اُشير إلى أنّ ما فرضه صاحب كتاب لبّ اللباب من انتهاء بعض سلسلة الصوفيّة إلى معروف الكرخي صاحب الإِمام الرضا لم نرَ عليه شاهداً في ترجمته إلاّ ادّعاء الصوفيّة أنفسهم لذلك من دون ذكر سند ودليل.
فقد ادّعوا أنّ بعض سلاسلهم تنتهي إلى معروف الكرخي، ومنه إلى الإِمام الرضا ، ومنه إلى آبائه إلى عليّ ، ويسمّون هذه السلسلة بالسلسلة الذهبيّة، ونحن لا نعلم هل حقّاً كان معروف الكرخي من الصوفيّة أو لا ؟
نعم، رُوِيَ عنه: أ نّه قال للإِمام الصادق : «أوصني يابن رسول الله، فقال: أقلل معارفك، قال: زدني قال: انكر من عرفت منهم»(1).
وهذا الحديث يناسب ذوق المتصوّفة، إلاّ أنّ ذلك لا ينسجم مع ما ورد في ترجمته: من أ نّه أسلم في صباه على يد الإِمام عليّ بن موسى الرضا .
فقد روى السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه(2) عن ابن شهرآشوب في المناقب الجزء الرابع باب إمامة أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا أ نّه قال: ذكر ابن الشهرزوري في مناقب الأبرار: أنّ معروف الكرخي كان من موالي عليّ ابن موسى الرضا ، وكان أبواه نصرانيين، فسلّما معروفاً إلى المعلّم وهو صبيّ، وكان
المعلم يقول له: قل ثالث ثلاثة، وهو يقول: بل هو الواحد، فضربه المعلم ضرباً مبرحاً، فهرب ومضى إلى الرضا ، وأسلم على يده، ثُمّ إنّه أتى داره فدقّ الباب، فقال أبوه: مَنْ بالباب؟ فقال: معروف، فقال: على أيّ دين؟ قال: على ديني الحنيفي، فأسلم أبوه(1) ببركات الرضا . قال معروف: فعشت زماناً. ثمّ تركت كلما كنت فيه إلاّ خدمة مولاي عليّ بن موسى الرضا . وعن ابن خلكان وغيره نظير ذلك.
وعلى أيّة حال، فتصوّف معروف الكرخي غير ثابت لدينا، كما أنّ كونه من خدّام الإِمام الرضا ليس قطعيّاً عندنا، فإنّ خلوّ كتبنا الرجاليّة طرّاً عن ذكره وعلى الخصوص خلوّ كتاب عيون أخبار الرضا عن نقل رواية عنه بواسطته ممّا يريب الفطن في اختصاصه بالرضا .
وقبره في عصرنا الحاضر في بغداد لا يزوره عادة إلاّ السُنّة، وهم يمجّدون به. وتفترض الصوفيّة أ نّه كان من أكابرهم، ويقول الشيخ المامقاني : لم يُنقَل عنه ما يقضي بالتصوّف، وإنّما نسب المتصوّفون إليه التصوّف رواجاً لطريقتهم الفاسدة، وهذه عادة أهل المذاهب الفاسدة ينسبون إلى مؤمن تقيّ مذهبهم كذباً وبهتاناً; لترويج مذهبهم الفاسد، أليس ينسبون التصوّف إلى أمير المؤمنين البريء منهم ومن مسلكهم؟!(2).
ثُمّ إنّنا لا نستبعد أن يكون انتماء كثير من السُنّة إلى سلك التصوّف نتيجةً لتعطّشهم إلى الجانب الروحي، وعدم إمتلاكهم المعين الصافي للقضايا الروحيّة الذي كانت الشيعة تمتلكه، وهو: معين أئمّتهم سلام الله عليهم; ولذا ربّما لا ترى
بلحاظ عصر حضور الأئمّة ; أيَّ رواج لسلك التصوّف لدى الشيعة، وإنّما بدأ ذلك ببداية عصر الغيبة. وأظنّ أنّ أوّل شيعي أو متشيّع أظهر هذا الأمر وبدأ يدعو الناس إليه هو: حسين بن منصور الحلاّج. ويعدّه المتصوّفون من أنفسهم، وكان إضافة إلى هذه الحالة يدّعي البابيّة للإمام صاحب الزمان ـ عجَّل الله فرجه ـ على ما رواه الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة بسنده إلى الحسين بن عليّ بن الحسين أخي الشيخ الصدوق : من أنّ حسين بن منصور الحلاّج كتب رسالة إلى قرابة أبي الحسن ـ والد الصدوق ـ يستدعيه ويستدعي أبا الحسن أيضاً، ويقول: أنا رسول الإِمام ووكيله، قال: فلمّا وقعت المكاتبة في يد أبي خرقها، وقال لموصلها إليه: ما أفرغك للجهالات ! ...(1).
ولعلّ أوّل من سُمِّي باسم التصوّف أو من أوائلهم الحسن البصري المتولّد سنة (22)، والمتوفّى سنة (110) هجريّة.
وقال الشيخ المطهّري : إنّ الحسن البصري لم يكن يُسمّى في عصره صوفيّاً، وإنّما سُمِّيَ بعد ذلك بهذا الاسم; أوّلاً: بسبب كتاب أ لّفه باسم (رعاية حقوق الله) والذي يمكن أن يُفترَض أوّل كتاب للتصوّف; وثانياً: بسبب أنّ العرفاء ينهون بعض سلاسل طريقتهم إِليه، ومنه إلى أمير المؤمنين ، من قبيل سلسلة مشايخ أبي سعيد أبي الخير...(2).
أقول : وبهذه المناسبة أذكر بعض ما ورد في رواياتنا عن أهل البيت بشأن الحسن البصري:
ـ ورد في الوسائل(1) عن عبدالله بن سليمان قال: «سمعت أبا جعفر وعنده رجل من أهل البصرة، وهو يقول: إنّ الحسن البصري يزعم أنّ الذين يكتمون العلم تُؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو جعفر : فهلك إذن مؤمن آل فرعون، مازال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً، فليذهب الحسن يميناً وشمالاً فوالله ما يوجد العلم إلاّ هاهنا».
2 ـ رُوِيَ أنّ عليّ بن الحسين رأى يوماً الحسن البصري وهو يقصّ عند الحجر الأسود، فقال له : «أترضى يا حسن نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فثمّ دار للعمل غير هذه الدار؟ قال: لا، قال: فلله في أرضه معاذٌ غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فلِمَ تشغل الناس عن الطواف»(2).
3 ـ وقيل لعليّ بن الحسين يوماً: «إنّ الحسن البصري قال: ليس العجب ممّن هلك كيف هلك؟ وإنّما العجب ممّن نجا كيف نجا.
فقال : أنا أقول: ليس العجب ممّن نجا كيف نجا، وأمّا العجب ممّن هلك كيف هلك مع سِعة رحمة الله»(3).
وقد يقال: إنّ أوّل من سُمّي باسم الصوفي أو بذر مسلك التصوّف بين المسلمين هو: أبو هاشم الكوفي(4).
وقد رُوِيَ عن الإمام العسكري عن الصادق : بشأن أبي هاشم الكوفي: إنّه كان فاسد العقيدة جدّاً، وهو الذي ابتدع مذهباً يقال له: التصوّف(5).
وممّن اشتهر بكونه من الصوفيّة: سفيان الثوري. وقيل: إنّه تلميذ لأبي هاشم
الصوفي(1).
وكذلك ممّن اشتهر بذلك امرأة اسمها رابعة العدويّة، ويبالغون فيها وفي قداستها وعظمتها وكشفها وشهودها وما إلى ذلك: وقيل إنّ سفيان الثوري كان يطرح عليها مسائله، وكان يتعظ بمواعظها.
وقيل ـ أيضاً ـ : إنّه حينما توفّي عنها زوجها أراد الحسن البصري أن يتزوج بها، فطرحت رابعة اسئلة على حسن البصري، وعجز الحسن عن الجواب، فحينما رأت رابعة خلوَّ الحسن البصري عن تلك المعارف امتنعت من قبول طلبه، وأرسلت إِليه الأبيات التالية:
راحتي يا إخوتي في خلوتي *** وحبيبي دائماً في حضرتي
لم أجده عن هواه عوضاً *** وهواه في البرايا محنتي
حيثما كنتُ أُشاهدْ حسنه *** فهو محرابي إليه قبلتي
إنْ أمتْ وجداً وما ثمّ رضا *** واعَنائي في الورى واشقوتي
يا طبيبَ القلبِ يا كلَّ المنى *** جدْ بوصل منكَ يشفي مُهْجتي
يا سُروري وحياتي دائماً *** نشأتي منكَ وأيضاً نشوتي
قد هجرت الخلقَ جَمْعاً أرتجي *** منكَ وصْلاً فهو أقصى مُنيتي
وقيل ـ أيضاً ـ : إنّه قال لها ذات يوم سفيان الثوري: صفي لي درجة إيمانك واعتقادك بالله جلَّ وعلا، فقالت رابعة: إنّي لا أعبد الله شوقاً إلى الجنّة، ولا خوفاً من جهنم، وإنّما أعبده لكمال شوقي إليه، ولأداء شرائط العبوديّة. وبعد ذلك أنشأت هذه المناجاة:
اُحبّك حبّين حبَّ الهوى *** وحـبّـاً لأنّـك أهـلٌ لـذاك
فأمّا الذي هو حبُّ الهوى *** فشغلي بذكراك عمّن سواك
وأمّا الذي أنت أهلٌ له *** فحبٌّ شُغِلتُ به عن سواك
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاك(1)
ولنعم ما قال الشيخ ذبيح الله المحلاّتي في كتاب (رياحين الشريعة)(2) تعليقاً على هذه المطالب المنقولة عن رابعة العدويّة، وهو: أنّ هذه الامرأة عاصرت ثلاثة أئمّة: الإمام زين العابدين والإمام الباقر والإمام الصادق ، ولا يوجد ـ برغم هذا ـ في كلماتها اسم ولا رسم عن أهل البيت الذين هم أحد الثقلين. والوليّ الحقيقي لله سبحانه هو الذي يتراود مع آل بيت الرسول لا مع سفيان الثوري وحسن البصري.
وهذا الاستغراب من قبل الشيخ المحلاّتي واكتشافه لعدم واقعيّة وضع رابعة العدويّة صحيح. فلئن كانت رابعة العدويّة سيّدة زمانها في تزكية النفس وتصفية الباطن أفلم تكن سامعةً بوضع الإمام زين العابدين وكذلك الإمامين الآخَرين؟! فهب أنّها لم تكن تؤمن بإمامتهم ولكن ألم تكن سامعة بصفاء باطنهم وعرفانهم الإلهي المشتهر بين الناس حتّى ملأ الخافقين، فهلاّ اهتمّت بالتشرّف بخدمة أحدهم والاستضاءة بروحانيّته في أقلّ تقدير؟!
ومن الذين ترى الصوفيّة أ نّه من أركانهم عبدالقادر الجيلاني. وسلسلة القادريّة تُنهي نفسها إليه. وقد نقلت عنه دعاوى كبيرة في مراتب العرفان والكشوف. وقد مات في سنة (560) أو سنة (561)(3).
وعلى أيّة حال، فلا شكّ لدى الشيعة في أنّ عبدالقادر الجيلاني أحد أئمّة الضلال وأركانهم. وكان منصوباً في مقابل أئمّتنا المعصومين .
ويعجبني أن أذكر هنا عن عبد القادر الجيلاني قِصَّتين مع شيء ممّا علّق عليهما الشيخ العلاّمة الأميني (1):
الاُولى : ما ورد في مرآة الجنان(2) كالتالي :
روى الشيخ الإمام الفقيه العالم المقري أبو الحسن عليّ بن يوسف بن جرير بن معاضد الشافعي اللخمي في مناقب الشيخ عبدالقادر بسنده من خمس طرق، وعن جماعة من الشيوخ الجلّة أعلام الهدى العارفين المقتنين للاقتداء، قالوا: جاءت امرأة بولدها إلى الشيخ عبدالقادر، فقالت له: يا سيّدي إنّي رأيت قلب ابني هذا شديد التعلّق بك، وقد خرجتُ عن حقّي فيه لله عزّ وجلّ ولك، فقبله الشيخ، وأمره بالمجاهدة وسلوك الطريق. فدخلت أُمّه عليه يوماً فوجدته نحيلاً مصفرّاً من آثار الجوع والسهر، ووجدته يأكل قُرْصاً من الشعير، فدخلت إلى الشيخ فوجدت بين يديه إناءً فيه عِظام دجاجة مسلوقة قد أكلها، فقالت: يا سيّدي، تأكل لحم الدجاج، ويأكل ابني خبز الشعير؟! فوضع يده على تلك العِظام، وقال: قومي بإذن الله تعالى الذي يحيي العِظام وهي رميم، فقامت الدجاجة سويّة وصاحت، فقال الشيخ: إذا صار ابنك هكذا فليأكل ما شاء.
قال الشيخ العلامة الأميني فيما قال تعليقاً على هذه القِصّة: هل لأكل خبز الشعير وما جَشِبَ من الطعام بمحضه أن يوصل السالك إلى مرتبة يحيي الموتى، وإن كان المولى ـ سبحانه ـ يعلم أ نّه متى بلغ هذه المرتبة ألهاه أكل الدجاجة المسلوقة أكلاً لمّا؟! وهل الرياضة شرط في حدوث القوّة في النفس والملكات الفاضلة، وليست شرطاً في بقائها...؟!
الثانية : ذكر الشعراني في الطبقات الكبرى(1) قال: كان الشيخ عبدالقادر الجيلاني يقول: أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة مجرّداً سائحاً لا أعرف الخَلْق ولا يعرفوني، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجانّ أُعلّمهم الطريق إلى الله عزّ وجلّ، ورافقني الخضر في أوّل دخولي العراق، وما كنت عرفته، وشرط أن لا أُخالفه، وقال لي: اقعد هنا، فجلست في الموضع الذي أقعدني فيه ثلاث سنين يأتيني كلّ سنّة مرّة، ويقول لي: مكانك حتّى آتيك، قال: ومكثت سنة في خرائب المدائن آخذ نفسي بطريق المجاهدات، فآكل المنبوذ ولا أشرب الماء، ومكثت فيها سنة أشرب الماء ولا آكل المنبوذ، وسنة لا آكل ولا أشرب ولا أنام، ونمت مرّة بإيوان كِسرى في ليلة باردة، فاحتلمت، فقمت وذهبت إلى الشطّ، واغتسلت، ثُمّ نمت فاحتلمت، فذهبت إلى الشط، واغتسلت، فوقع لي ذلك في تلك الليلة أربعين مرّة وأنا أغتسل، ثُمّ صعدت إلى الإيوان خوف النوم.
قال الشيخ الأميني تعليقاً على هذه القِصّة: اقرأه بإمعان وتبصّر في شأن هذا العارف معلّم طوائف من رجال الغيب والجانّ الذي اتَّخذوه الطريق إلى الله، وكان رفيق الخضر ، وأعجب من إنسان لم يأكل سنة، ولم يشرب أُخرى، ويتركهما ثالثة، ولم تخرّ قواه حتّى يحتلم في ليلة شاتية أربعين مرّة، ويعبث به الشيطان بهذا العدد الجمّ وهو فان في الله، ولو كان اتَّفق له ذلك خلال تلكم الأيّام التي كان يأكل فيها الدجاجة المسلوقة، ويحيي عِظامها كما مرّ لكان يُعدّ بعيداً عن الطبيعة البشريّة، وما أطول تلك الليلة حتّى وسعت أربعين نومة ذات احتلام وأغسالاً بعدها على عدد الأحلام المتخلّلة بالذهاب إلى الشط والإياب إلى مقرّه ومنامه، وبعد ذلك كلّه تبقى منها برهة يصعد الشيخ إلى الإيوان خوفاً من النوم، ولعلَّه لو نام بعد نومته المتمّمة للأربعين لبلغ العدد الأربع مئة أو أكثر، ولم يكن الشيطان يفارق
ذلك الهيكل القدسي واللعب به مهما امتدّت ليلته، وليس إحياؤه عظام الدجاجة بأعظم من هذه الكرامة، وإن هي إلاّ أحلام نائم نسجتها أيدي العرونة(1) غلوّاً في الفضائل. انتهى كلام الشيخ الأميني .
وعلى أيّة حال، فنحن لا نهدف هنا إلى ذكر أعمدتهم وأركانهم، وإنّما كان هدفنا الإشارة إلى أنّ مدرسةً فُتِحت في أحضان أبناء العامّة، ثمّ سرت في وقت متأخّر ـ وفي أغلب الظنّ بعد غيبة الإمام ـ إلى الشيعة يكون أمرها مُريباً لنا; لأ نّه لا يتحقّق هذا الوضع إلاّ لسببين: فتح مدرسة في مقابل مدرسة الأئمّة ، وإرواء العطش الروحي لدى السُنّة الذي لم يكن يُحَسّ به لدى الشيعة; وذلك لارتوائهم من معين الأئمّة المعصومين .
وهذا شبيه تماماً بما وقع في علم الأُصول من حُجيّة القياس والاستحسان والمصالح المرسلة لدى السُنّة دون الشيعة فهي عبارة عن مدرسة الرأي ـ في مقابل مدرسة الأئمّة التي هي مدرسة النص ـ التجأ إليها السُنّة لفقرهم في مدارك تحصيل الأحكام، بينما لم تكن الشيعة تحسّ بهذا الفقر; وذلك لامتداد عصر النصّ عندهم بامتداد الأئمّة .
وأُؤكّد ـ هنا أيضاً ـ أ نّني لا أثِق بأنّ كلَّ من طرحته الصوفيّة بعنوان أ نّه منهم أو من اركانهم فهو كذلك.
وختاماً أُشير إلى أنّ هناك نمطاً آخر ممّن تفترضهم الصوفيّة من أركانهم ودعائمهم يختلف عن نمط الأسماء التي مضى ذكرها، وهو عبارة عن أُناس سجَّل لهم التأريخ نوعاً من الورع والتقوى، ونوعَ تعاطف مع أئمّتنا ممّا يشهد على أنّهم لم يكونوا أعداءً للأئمّة برغم عدم اعترافهم بإمامتهم ، ولا ندري هل كانوا حقّاً منتمين إلى مدرسة التصوّف ولو إرواءً لعطشهم الروحي، بعد عدم اعترافهم
بإمامة الأئمّة، أو إنّ الصوفيّة لمّا رأوا أنّ التأريخ سجّل لهم الورع والتقوى اشتهوا أن ينتحلوهم; لكي يقووا بهم، أو لكي ينهوا سلاسلهم اِلى أُناس متقين. وأذكر هنا على سبيل المثال ثلاثة أسماء:
الأوّل : شقيق البلخي الذي يقال عنه: إنّه كان صوفيّاً، وكان تلميذاً لإبراهيم الأدهم(1). وقد سجّل له التأريخ(2) أ نّه كان في بداية أمره صاحب ثروة ومكنة كبيرة، وكان يُكثر الأسفار للتجارة، فسافر في بعض السنين إلى بلاد الترك إلى بلد كان أهله وثنيين، فقال لأحد أكابرهم: إنّ عبادتكم لهذه الأصنام باطلة، فهي ليست بآلهة، وللمخلوق خالق سميع عليم لا يشبهه شيء، وهو الرازق لكلّ حيّ، فقال له ذاك الوثني:
إنّ قولك يخالف فعلك، قال شقيق: وكيف ذلك؟ فقال له الوثني: أنت ترى أنّ لك خالقاً يرزق المخلوقين وبرغم هذا الاعتقاد تتحمل عناء ومشقة السفر إلى هذه البلاد لطلب الرزق. فتنبّه شقيق على أثر هذه الكلمة، ورجع إلى بلده، وتصدّق بكلِّ ما يملك، ولازم العلماء والزهّاد إلى آخر حياته.
وهو وإن لم يذكر بشأنه الاهتداء إلى خطّ الإمامة الثابت لدى الشيعة، ولكن رُويت عنه قِصَّة طريفة مع الإمام موسى بن جعفر ، وهي القِصّة المرويّة في كتاب كشف الغُمّة لعليّ بن عيسى الإرْبِليِّ: من أنّ شقيقاً قال: «خرجت حاجّاً في سنة تسع وأربعين ومئة، فنزلت القادسيّة، فبينا أنا أنظر إلى الناس في زينتهم وكثرتهم فنظرت إلى فتىً حسن الوجه، شديد السُمرة، ضعيف، فوق ثيابه ثوب من صوف مشتمل بشملة، في رجليه نعلان، وقد جلس منفرداً، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفيّة يريد أن يكون كَلاًّ على الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه،
ولأُوبّخنّه، فدنوت منه فلمّا رآني مقبلاً قال:
يا شقيق، اجتنبوا كثيراً من الظنّ; إنّ بعض الظنّ إثم، ثمّ تركني ومضى. فقلت في نفسي: إنّ هذا الأمر عظيم، قد تكلّم بما في نفسي، ونطق باسمي، وما هذا إلاّ عبد صالح لألحقنّه ولأسألنّه أن يحلّلني، فأسرعت في أَثَره، فلم ألحقه، وغاب عن عيني. فلمّا نزلنا واقصة وإذا به يصلّي، واعضاؤه تضطرب، ودموعه تجري، قلت: هذا صاحبي أمضي إليه واستحلّه، فصبرت حتّى جلس، وأقبلت نحوه، فلمّا رآني مقبلاً قال: يا شقيق، اتل ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾(1)ثمّ تركني ومضى. فقلت: إنّ هذا الفتى لمن الأبدال، لقد تكلّم على سرّي مرتين، فلمّا نزلنا زُبالة إذا بالفتى قائم على البئر، وبيده رَكوة يريد أن يستقي ماءً، فسقطت الرَّكوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه، فرأيته قد رمق السماء، وسمعته يقول:
أنْتَ ربّيْ إذا ظمئتُ إِلى الماءِ *** وقوتيْ إذا أردتُ الطعاما
اللهمّ سيّدي مالي غيرها فلا تعدمنيها.
قال شقيق: فو الله لقد رأيت البئر وقد ارتفع ماؤها، فمدّ يده، وأخذ الرَّكوة وملأها ماءً، فتوضّأ وصلّى أربع ركعات، ثمّ مال إلى كثيب رمل فجعل يقبض بيده ويطرحه في الرَّكوة، ويحرّكه ويشرب، فأقبلت إليه، وسلّمت عليه، فردّ عليّ، فقلت: أطعمني من فضل ما أنعم الله عليك؟
فقال: يا شقيق، لم تزل نعمة الله علينا ظاهرة وباطنة، فأحسن ظنّك بربّك، ثُمّ ناولني الرَّكوة، فشربت منها فإذا هو سويق وسكّر، فوالله ما شَرِبت قطّ ألذّ منه، وأطيب ريحاً، فشَبِعت ورَوِيت، وأقمت أيّاماً لا أشتهي طعاماً ولا شراباً، ثُمّ لم أرَه حتّى دخلنا مكّة، فرأيته ليلةً إلى جنب قبّة الشراب في نصف الليل قائماً يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتّى ذهب الليل، فلمّا رأى الفجر جلس في
مصلاّه يسبّح، ثمّ قام فصلى الغداة، وطاف بالبيت أُسبوعاً، وخرج، فتبعته وإذا له غاشيةٌ وأموال، وهو على خلاف ما رأيته في الطريق، ودار به الناس من حوله يسلّمون عليه، فقلت لبعض من رأيته يقرب منه: من هذا الفتى؟ فقال هذا موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب فقلت: قد عجبت أن يكون هذه العجائب إلاّ لمثل هذا السيّد».
وقد قيل بهذا الصدد :
سلْ شقيقَ البلخي عنه وماعا *** ينَ منه وما الذي كان أبصر
قالَ لمّا حججتُ عاينتُ شخصاً *** شاحبَ اللونِ ناحلَ الجسمِ أسمر
سائراً وحدَه وليس له زا *** دٌ فـمـا زلـتُ دائـمـاً أتـفـكـر
وتوهمّت أنّه يسأل الناسَ *** ولـم أدرِ أنـّه الـحـج الأكـبـر
ثمّ عاينته ونحن نزولٌ *** دونَ قيد على الكثيب الأحمر
يضع الرملَ في الإناء ويشرَ *** بـه فـنـاديـتـه وعـقـلـي محيّر
أسقني شربة فناولني منه *** فـعـايـنـتـه سـويـقـاً وسـكّـر
فسألت الحجيج مَنْ يكْ هذا *** قيل هذا الإمام موسى بن جعفر(1)
ولنعم ما قيل باللغة الفارسيّة:
به راه كعبه شخصى را بديدم *** نزار و زرد رنگ و ناتوان بود
به تنهائى بدون توشه مى رفت *** كه از تنهائيش دل بدگمان بود
گمانم آمد از اهل سؤال است *** ندانستم كه جان كعبه آن بود
چو بنشستيم در نزديك چاهى *** در آنجا تلّ سرخى هم عيان بود
به من از آب وخاكش شربتى داد *** كه شهد سكّرم در كام جان بود
چو پرسيدم ز حالش قائلى گفت *** امـام هـفـتمين شيعيان بود
ل: «ما تقول أنت؟ فقال شقيق: إن أُعطينا شكرنا، وإن مُنِعنا صبرنا. فقال الصادق : الكلاب عندنا بالمدينة كذلك تفعل! فقال شقيق: يابن رسول الله ما الفتوّة عندكم؟ فقال: إن أُعطينا آثرنا، وإن مُنِعنا شكرنا».
والثاني : الفضيل بن عياض، وقد مضى فيما سبق في حديثنا عن النقطة الثانية ذكر قِصّة توبته لدى سماعه لقارئ يقرأ: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ...﴾(3). فقال ياربّ قد آن. وقد ذكر النجاشي عنه أ نّه عاميّ ثقة، وأنّ له نسخة يرويها عن الإمام الصادق (4).
وقد نقل المحدّث القمّي عن المحدّث النوري أ نّه ذكر في المستدرك في شرح حال كتاب مصباح الشريعة: لا أستبعد أن يكون المصباح هو النسخة التي رواها الفضيل، وهو على مذاقه ومسلكه، والذي أعتقده أ نّه جمعه من ملتقطات كلماته في مجالس وعظه ونصيحته، ولو فُرِضَ فيه شيء يخالف مضمونه بعض ما في غيره وتعذّر تأويله، فهو منه على حسب مذهبه، لا من فريته وكذبه، فإنّه ينافي وثاقته انتهى(5).
ومن الحكايات التي لها صلة بالفضيل بن عياض ما ورد في عيون أخبار
الرضا(1) في الاحتجاج بين الإمام موسى بن جعفر وهارون الرشيد حيث وضّح الإمام موسى بن جعفر لهارون الرشيد: أنّهم هم ورثة النبيّ دون بني العبّاس; وذلك أ نّه ادَّعى هارون الرشيد أنّ بني العبّاس أولى بالإرث; لأنّ أبا طالب كان قد مات في زمن رسول الله والعبّاس بقي حيّاً إلى ما بعد الرسول، فحجب عليّاً عن الإرث; لأنّ العمّ يحجب ابن العمّ عن الإرث. فأجابه الإمام بأ نّه قال عليّ : «إنّه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو اُنثى لأحد سهم إلاّ للأبوين والزوج والزوجة، ولم يثبت للعمّ مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب إذن ففاطمة حجبت العبّاس عن الميراث» إلاّ أنّ تيماً وعدياً وبني أُميّة قالوا: العمّ والد رأياً منهم بلا حقيقة، ولا أثَر عن الرسول ، ومن قال بقول عليّ من العلماء فقضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول عليّ ، وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين (يعني هارون الرشيد) المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به ... فأمر هارون الرشيد بإحضار نوح بن دراج، وإحضار من يقول بخلاف قوله منهم سفيان الثوري، وإبراهيم المدني، والفضيل بن عياض، فشهدوا أ نّه قول عليّ في هذه المسألة، فقال لهم: فيما أبلغني بعض العلماء من الحجاز (يعني موسى بن جعفر ) فلم لا تفتون به وقد قضى به نوح بن دراج؟! فقالوا جسر نوح وجبنّا.
والثالث : بشر الحافي وقد جعلوه ـ أيضاً ـ من مشاهير العرفاء(2) وقد ثبّت التأريخ عنه توبته عن معاصيه على يد الإمام موسى بن جعفر ، وإن لم يثبّت له رجوعه إلى التشيّع وإلى إمامة الإمام موسى بن جعفر وقصته ما يلي:
روى العلاّمة الحلّي في منهاج الكرامة أ نّه مرّ الإمام موسى بن جعفر ذات
يوم في طريقه على باب بشر فسمع من البيت صوت الملاهي والأغاني والرقص، وخرجت من البيت جارية تحمل الوساخات التي تجمع من البيت بالمكنسة، فصبّتها في خارج البيت، فقال لها الإمام يا جارية هل صاحب هذا البيت حرّ أو عبد؟ فقالت: بل حرّ، فقال : صدقتِ لو كان عبداً لكان يخشى مولاه. فلمّا رجعت الجارية إلى البيت كان سيّدها بشر جالساً على مائدة الخمر، فسألها عن سبب تأخيرها، فقصّت الجارية له ما جرى بينها وبين الإمام من الحديث لدى الباب، فأثّر ذلك في نفس بشر، وخرج حافياً إلى الإمام ، وبكى واعتذر وتاب على يده (1).
وعلى أيّة حال، فلو ثبت أنّ بعض هؤلاء كانوا من الصوفيّة ومع ذلك كانوا يحبّون الإمام المعصوم أو يستفيدون من معينه بعض الفوائد، فهذا لا يبرّر صحّة طريقهم، فإنّ الإمام لا يبخل حتّى بهداية المنحرفين الذين لا يقبلون رفض انحرافهم من الأساس، ولكنّهم يقبلون ببعض الإرشادات الصحيحة.
المصدر : كتاب تزكية النفس