الاثنين، 29 يونيو 2015

الوحدة العرفانية الضالة (الشيخ حسن ميلاني)




إن ما سوى النور القدوس الأزلي القديم السرمدي المتعالي عن كل شيء لهو المسخر بإرادته؛ الموجود بإيجاده ومشيته؛ الفاني بإفنائه، فكيف يمكن التفوه بوحدة وجود الوجود وعينية ذات الخالق والمخلوق؟!
وكيف يصح تأويل معنى الوحدة الحقة الإلهية بالوحدة الاعتبارية الفلسفية والعرفانية، والقول بعينية الذات المتعاليه مع الأشياء المتبائنة المتجزية المتكثرة بالوجدان والضرورة؟!! حتى يكون واحدا في عين كثرته!! وكثيرا في عين وحدته؟! ويصبح الواحد الأحد الفرد الصمد واحدا بالاعتبار، ومتكثرا ومتجزيا بما لا يتناهي من المراتب والأجزاء؟!!
هل اعتبارك الشيء لا بشرط يجعل واقعية وجوده مطلقا لا بشرط، وخارجا عن الأجزاء العينية والكيفيات الواقعية؟! يقول الإمام الصادق عليه السلام في شأن اللعين الرجيم:
إن هذا العدو الذي ذكرت... قد أقر مع معصيته لربه بربوبيته...[1]
إن كانت خلقة الأشياء لا من شيء ممتنعة ـ كما يقوله العارف والفيلسوف ـ، ولا يمكن تفسير وجودها إلا على نحو الصدور والتولد والتجلي والظهور أو بتعبيرٍ أصرح على نحو الاستحالة والتبعيض والتجزئة والتغير، فمن الذي يعذبه اللّه‏ تعالى بظلمه على نفسه وغيره، وضلالته وإضلاله الناس عن المعارف الحقة الإلهية إلى الأوهام والأفكار الخاطئة الترابية؟! يقول اللّه‏ تعالى:
«وقالت اليهود والنصاري نحن أبناء اللّه‏ وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وللّه‏ ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير».[2]
تقول المعرفة البشرية في شأن وجود الأشياء ونسبة وجودها مع وجود الخالق المتعال:
الروابط الوجودية غير خارجة الوجود عن وجود 60+موضوعها ومن تنزلاته.[3]
إن من الضروري الثابت بالضرورة من الكتاب والسنة أن اللّه‏ تعالى لا يوصف بصفة الأجسام، ولا ينعت بنعوت الممكنات مما يقضي بالحدوث، ويلازم الفقر والحاجة.[4]
وللسائل أن يسأل: إذا كانت الموجودات عندكم عين وجود الخالق وروابط بالنسبة إليه غير خارجة عنه، فكيف يمكن الالتزام بما تعترفون أنه من ضروري ما يدل عليه الكتاب والسنة وهو: أنه تعالى لا يوصف بصفة الأجسام، ولا ينعت بنعوت الممكنات ؟!
تااينجا مال كجاست
فهلّموا نتلُ نصوصا من الكتاب والسنة حتى تظهر قيمة ما قالته العرفاء في هذا المضمار:
«وللّه‏ يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون».[5]
الإمام الصادق عليه السلام:
... من زعم أن اللّه‏ عزّ وجلّ من شيء أو في شيء أو على شيء فقد كفر...[6]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
... ولا ينقلب شأنا بعد شأن...[7]
الإمام الرضا عليه السلام:
وأما الظاهر فليس من أجل أنه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنم لذراها، ولكن ذلك لقهره وغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل: ظهرت على أعدائي، وأظهرني اللّه‏ على خصمي يخبر عن الفلج والغلبة فهكذا ظهور اللّه‏ على الأشياء. ووجه آخر أنه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه شيء، وأنه المدبّر لكل ما يرى، فأي ظاهر أظهر وأوضح أمرا من اللّه‏ تبارك وتعالى فإنك لا تعدم صنعته حيثما توجهت وفيك من آثاره ما يغنيك، والظاهر منا البارز بنفسه والمعلوم بحده...[8]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
لم يحلل فيها فيقال: هو فيها كائن.[9]
الإمام الرضا عليه السلام:
...وأما القاهر... فإنه ليس على علاج ونصب... ولكن ذلك من اللّه‏ تبارك وتعالى على أن جميع ما خلق متلبس به الذل لفاعله وقلة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين غير أنه يقول له: كن، فيكون...[10]
الإمام الكاظم عليه السلام:
... استولى على ما دق وجل...[11]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
... متملك على الأشياء.. قد خضعت له رواتب الصعاب في محل تخوم قرارها، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها،.. فلا لها محيص عن إدراكه إياها، ولا خروج عن إحاطته بها، ولا احتجاب عن إحصائه لها، ولا امتناع عن قدرته عليها،...[12]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
ولا يتغير بحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام ولا يغيره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيرية والأبعاض...
ولا أن الأشياء تحويه فتقله أو تهويه، ولا أن الأشياء تحمله فيميله ويعدله، ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج،... يقول لما أراد كونه: كن، فيكون...[13]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
... وهو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، والباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كل شيء منها بجلاله وعزته، لا يعجزه منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه... خضعت الأشياء له فذلت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضره... هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها. وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها... بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها... ثم هو يفنيها بعد تكوينها... ثم يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها...[14]
الإمام الرضا عليه السلام:
... الذي خضع كل شيء لملكته، وذل كل شيء لعزته، واستسلم كل شيء لقدرته وتواضع كل شيء لسلطانه وعظمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصى عدده، فلا يؤوده كبير، ولا يعزب عنه صغير...[15]
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
... خلائق مربوبون وعباد داخرون.[16]
الإمام الباقر عليه السلام:
...تصعق الأشياء كلها من خيفته...[17]
الإمام الرضا عليه السلام:
... ثم خلق السموات والأرض في ستة أيام... وكان قادرا على أن يخلقها في طرفة عين...[18]
الإمام الصادق عليه السلام:
... قد خلفوا ورائهم منهاج الدين وزينوا لأنفسهم الضلالات وأمرجوا أنفسهم في الشهوات، وزعموا أن السماء خاوية ما فيها شيء مما يوصف، وأن مدبر هذا العالم في صورة المخلوقين،...وأنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا نشور، والقيامة عندهم خروج الروح من قالبه وولوجه في قالب آخر... فاستقبح مقالتهم كل الفرق ولعنهم كل الأمم فلما سئلوا الحجة زاغوا وحادوا فكذب مقالتهم التوراة ولعنهم الفرقان وزعموا مع ذلك أن إلههم ينتقل من قالب إلى قالب، وأن الأرواح الأزلية هي التي كانت في آدم، ثم هلم جرّا تجري إلى يومنا هذا في واحد بعد آخر. فإذا كان الخالق في صورة المخلوق فبما يستدل على أن أحدهم خالق صاحبه؟!
وقالوا إن الملائكة من ولد آدم، كل من صار في أعلى درجة دينهم خرج من منزلة الامتحان والتصفية فهو ملك، فطورا تخالهم نصاري في أشياء وطورا دهرية، يقولون: إن الأشياء على غير الحقيقة...[19]
الإمام الرضا عليه السلام:
ويحك كيف تجتريء أن تصف ربّك بالتغير من حال إلى حال، وأنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين؟![20]
فننقل هاهنا كلاما مشتملاً على أهم المباني العرفانية والفلسفية وتصويرهم عن مسألة وحدة الخالق المتعال التي لا ترتبط في واقع الأمر إلى مسألة وحدة الباري جل وعلا أصلا، بل هو نفس الدليل على وحدة الوجود وإنكار وجود الخالق ووحدته؛ ثم نأخذ بالنقد عليه إجمالاً، وهو ما جاء في تفسير "الميزان" من قوله:
أطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما أنه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد ولا مقيد بقيد ولا مشروط بشرط، ـ وإلا انعدم في ما ورآء حده وبطل على تقدير عدم قيده أو شرطه وقد فرض واجبا لذاته، فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان ومطلق إطلاقا لا يتحمل تقييدا. وقد ثبت أيضا أن وجود ما سواه أثر مجعول له وأن الفعل ضروري المسانخة لفاعله، فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقة ظلية مطلق غير محدود وإلا تركبت ذاته من حد ومحدود وتألفت من وجود وعدم وسرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل وفعله، وقد فرض أنه واحد مطلق، فالوجود الذي هو فيضه وأثره المجعول واحد غير كثير ومطلق غير محدود وهو المطلوب.
فما يترائى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضي بالتحديد من النقص والكمال والوجدان والفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها...
فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره بإختلاف قابليتها،... كالشمس التي تفيض نورا واحدا متشابه الأجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة والاستعداد.
فإن قلت: لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية، فإن كان ما عد منشأ لها من الماهيات والاستعدادات أمورا وهمية غير واقعية لم يكن لإسناد هذه الأمور الواقعية إليها معنى ورجع الأمر إلى الوجود الذي هو أثر الجاعل الحق وهو خلاف ما ادعيتموه من إطلاق الفيض، وإن كانت أمورا واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به، فكان الاستناد أيضا إلى فعله تعالى وثبت خلاف المدعى.
قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد ولا يبقى معه من الاختلاف أثر، بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي ولا يبقى لهذا البحث معه من الاختلاف أثر، بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي ولا يبقى لهذا البحث على هذا محل أصلاً.
وبعبارة آخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية ووجود، وكذا تقسيمه إلى ما بالقوة وما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الأمر وقسم الأشياء إلى ماهية قابلة للوجود ووجود مقبول للماهية، وكذا إلى قوة فاقدة للفعلية وفعلية تقابلها، وأما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل وعاد أثر الجاعل وهو الفيض واحدا مطلقا لا كثرة فيه ولا حدّ معه فافهم ذلك.[21]
ونشير إلى الإشكالات الواردة على الكلام المذكور في النقاط التالية:
1 . إن الإطلاق ليس إلا أمرا اعتباريا ولا وجود عيني له حتى يوصف به الخالق المتعال أو غيره من الموجودات الواقعية. واللّه‏ تعالى هو شيء بحقيقة الشيئية، لا أنه موجود ذهني أو اعتباري أو وهمي؛ هذا كله إذا أريد من الإطلاق هو الإطلاق في مقابل التقييد ـ كما هو ظاهر الكلام المنقول ـ وأما إذا أريد منه الإطلاق في مقابل التحديد ـ وهو معنى عدم التناهي في الوجود ـ فبيان بطلانه قد مضى في أكثر من موضع.
2 . "الإطلاق والتقييد" و"التناهي وعدم التناهي" من ملكات الموجودات المقدارية المخلوقة فلا ينسب شيء من ذلك إلى الخالق المتعالي عن المقدار المبائن للأشياء كلها موضوعا.
3 . اللامتناهي منتف ثبوتا ومستحيل الوجود موضوعا.
4 . الموجود الذي يحكم بوجوب وجوده لعدم تناهيه في الوجود، ويمكن فرض عدمه على تقدير محدوديته وعدم وجوده في ما ورآء حده وعلى تقدير عدم قيده وشرطه لهو الممكن بالذات، والخالق المتعال هو موجود يمتنع فرض عدمه لذاته لا لعدم تناهيه وإمكان انعدامه في ما ورآء حده على فرض محدوديته، فإنه الموجود المتعالي عن الجزء والكل والمقدار والعدد غير القابل للانتساب إلى العدم بالذات.
5 . عدم إمكان تصور ثان للخالق جل وعلا يكون من ناحية تعاليه عن المقدار والعدد وتباينه مع الموجودات المتجزئة القابلة للتكثر والتجزى والتحديد، لا لإطلاقه في الوجود وعدم تناهيه في الذات، فإن الحقيقة اللامتناهية ذات المراتب تكون مركبة عن مراتب وجودية لا متناهية ـ بناء على مذهب أصحاب الفلسفة ـ ومتشكلة عن عدد لا متناه من الصور المختلفة ـ بناء على مسلك مدعي العرفان ـ ومركبة عن أجزاء لا متناهية ـ على ما يقضي به الإنصاف والتحرز عن إغفال الناس بالوجوه الخطابية والشعرية المغرية‏ـ، فإن صح أن تسمى أمثال ذلك من المعاني المركبة واحدا بالوحدة الحقة التي لا تتثنى ولا تتكرر ـ فما هي الا مضاهئة لقول الذين كفروا من قبل ـ
«إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآبائكم ما أنزل اللّه‏ بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جائهم من ربهم الهدى».[22]
6 . "الأثر المجعول" عند أصحاب الفلسفة هو ما يفسر بكون وجود شيء مقتضيا وجود شيء آخر، لا ما يكون موجودا بإيجاد شيء شيئا آخر لا من شيء وعن قدرة واختيار تام، فإنهم يقولون:
من المبرهن عليه أنه فاعل تام لمجموع ما سواه... فهو مبدء لما سواه، منبع لكل خير ورحمة بذاته، واقتضاء المبدأ لما هو مبدء له ضروري.[23]
وهذا التفسير مخالف لما يدل عليه العقل والنقل من أن اللّه‏ تعالى هو خالق الأشياء وموجدها لا من شيء، ولا تكون وجود الأشياء من مقتضيات ذاته ولا مراتب وجوده أو صورا مختلفة عن حقيقته.
7 . لا يليق بالذي هو خالق كل شيء إلا أن يكون مبائنا لكل شيء متعاليا عن كل شيء سبحانه وتعالى، فإن الأشياء كلها ذوات مقدارية عددية متجزئة وبذلك تكون قابلة للوجود والعدم، والخالق جل وعلا يكون على خلاف ذلك كله، فالقول بضرورة المسانخة بين الخالق الفاعل عن الاختيار وفعله، والاعتقاد بوجوب التشابه بين اللّه‏ تعالى وخلقه من أوضح الخطأ.
8 . القول بتعدد الموجود المطلق غير المحدود (الصادر والمصدر). من الغرائب وهم يعترفون بامتناع ذلك بأعلى أصواتهم، بل هو نفس دليلهم على إثباتهم لوحدة الوجود وانحصار الوجود على زعمهم بوجود واجبهم.
9 . إذا كان البحث برهانيا عقليا فلا يناسبه التعبير عن الحقائق الواقعية بألفاظ شعرية ووجوه خطابية ـ كالوحدة الحقة الظلية ـ التي تلزم منها محالات واضحة كما يأتي.
10 . الذات غير الممتنعة عن التركب لذاتها ـ بل بشرط عدم تناهيها ووحدة الصادر عنها وعدم تألفها من وجود وعدم و... ـ والقابلة لسريان المناقضة الذاتية إليها ولو على بعض التقادير الممكنة فهو الواجب المشروط لا الواجب لذاته ـ كما قلناه ـ .
11 . جهات اختلاف الممكنات راجعة إلى إرادة منشئها وخالقها الذي خلقها وأنشأها لا من شيء، ولا معنى لإرجاع ذلك إلى أنفسها واختلاف قابلياتها واستعداداتها، فإن استعداد الشى ¨ء متفرع على وجوده السابق، والمخلوق لا من شيء ليس له وجود سابق، واستعداده ـ كأصل وجوده ـ ينسب إلى موجده لا نفسه، وإن كانت الفلسفة والعرفان لم تخضعا لهذه الحقيقة الواضحة البديهية من بدو تولدهما إلى الآن. وقد تعترف الفلسفة بذلك حيث تقول:
وأما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود، إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له وما لا شيئية له لا ثبوت له، وأما ثالثا: فلان إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه.[24]
وما مثل به لذلك من إفاضة الشمس نورا واحدا متشابه الأجزاء على الأجسام المختلفة القابلية لا يناسب المقام، فإن وجود الأشياء القابلة للنور لا تنسب قابلياتها لا إلى الشمس ولا إلى أنفسها، بل ينسب إلى خالقها موجدها لا من شيء.
12 . التمثيل بالشمس وكون نورها واحدا متشابه الأجزاء إن لم يكن مبعدا عن معرفة اللّه‏ فلا يقرب منها شيئا، بل التمثيل بذلك يؤيد ما بيناه مرارا عديدة من عدم إمكان فرار أصحاب الفلسفة والعرفان من الالتزام بكون ذات الخالق المتعال وفيضه الصادر عنها عندهم حقيقة عددية ذات أجزاء وأبعاض. فإن في ذلك تصريحا بأن النور ولو فرضناها حقيقة واحدة بسيطة يكون ذات مراتب مختلفة ومتشكلة عن أجزاء متشابهة.
13 . القول بإصالة الوجود بل وتصويرهم مسألة الوجود والماهية بما قرروه باطل موضوعا. بل الأنسب بما يريدونه من مسألة أصالة الوجود هو أن يقال في تصويرها:
إن ما نراه من الحقائق والواقعيات هل هي حقيقة محضة لا متناهية موجودة بذاتها غير قابلة للعدم مطلقا، هي المتحصصة بالحصص المختلفة والمتجلية بالصور المتبائنة أزلا وأبدا، والماهيات هي الحدود الذهنية المنتزعة من صور تلك الحقيقة، فلا خالق، ولا مخلوق، ولا جاعل، ولا مجعول، ولا حادث، ولا محدث،[25] أم ليست هي نفس حقيقة الوجود حتى يمتنع خلقها وإيجادها، بل إن هي إلا أشياء حقيقية مخلوقة بإيجاد خالقها، وهي قابلة للوجود والعدم لذاتها؟[26]
14 . إن الاختلافات الموجودة في الأشياء هي أمور لا يعتريها ريب، وإنكار ذلك يكون من أظهر مصاديق السفسطة والعمى، وقد قال اللّه‏ تعالى:
«ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً».[27]
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
يعني أعمى عن الحقائق الموجودة.[28]
فكيف يمكن إنكار الاختلافات الواقعية الموجودة، أو إرجاع أمرها إلى وحدة الوجود الموهوم؟!
15 . ما هو المعنى المقصود من الوجود الظلي؟ إن كان هو وجودا وهميا صرفا فكيف يوصف حتى ب "الظلية" و"الفرعية" و"عدم الأصالة" و"القيام بشى ¨ء آخر"؟! وإن لم يكن كذلك فقد يعود المحذور.
16 . إذا رجعت مباحث الوجود والماهية والقوة والفعل و... إلى غير حقيقتها، فما هو حكم المباحث الفلسفية والمعارف البشرية التي تعدّ من أنفس العلوم والذخائر ومن أعظم ما منّ به أفكار نوابغ البشر على غيرهم من الناس وهي قد تبتني بكلها على أساس أمثال هذه المباحث غير المرتبطة بالواقع باعتراف أربابها؟!
ولعمري أن ما أجيب به عن الإشكال أخيرا ـ وهو رجوع الجميع إلى الواحد المطلق، واحتساب الأمور المختلفة الواقعية أوهاما غير حقيقية ـ فقد خط البطلان خطه على جميع المعارف والعلوم والمباحث الراجعة إلى المبدأ والمعاد و... وعلى كل ما أتى به صاحب التفسير المذكور من شرح وتوضيح وتأويل وبيان في ميزانه البالغ عشرين مجلدات، الذي قل ما يوجد فيه ـ إن وجد ـ مبحث عقلي خال عن الإشكال والإيراد، فلا خالق ولا مخلوق، ولا عابد ولا معبود، ولا عود ولا تكليف، ولا وعد ولا وعيد و... فإن الجميع راجع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة... وهو نفس وجود الخالق المتعال، وهو قولهم: "ليس في الدار غيره ديار"!! يقول إبن العربي:
ثم السر الذي فوق هذا في مثل هذه المسألة أن الممكنات على أصلها من العدم وليس وجود إلا وجود الحق بصور أحوال ما هي عليه الممكنات في أنفسها وأعينها فقد علمت من يلتذ ومن يتألم.[29]
شرح: أي الأعيان الممكنة باقية على أصلها من العدم، غير خارجة من الحضرة العلمية كما قال في ما تقدم: والأعيان ما شمت رائحة الوجود بعد، وليس وجود في الخارج إلا وجود الحق متلبسا بصور أحوال الممكنات فلا يلتذ بتجلياته إلا الحق، ولا يتألم منه سواه.[30]

فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن

فما ثم موصول وما ثم بائن

بذا جاء برهان العيان فما أري

بعيني إلا عينه إذ اُعاين[31]
إنه عين الأشياء، والأشياء محدودة وإن اختلفت حدودها فهو محدود بحدّ كل محدود، فما يحد شيء إلا وهو حدّ للحق، فهو الساري في مسميات المخلوقات والمبدعات.[32]
فإن للحق في كل خلق ظهورا، فهو الظاهر في كل مفهوم، وهو الباطن عن كل فهم إلا عن فهم من قال: "إن العالم صورته وهويته وهو الإسم الظاهر"، كما أنه بالمعنى روح ما ظهر في الباطن... وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلاً.[33]
فصاحب العقل ينشد:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد
وصاحب التجلي ينشد في ذلك:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه عينه
فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها[34]
ومن عجيب الكلام المتناقص في نفسه، فضلاً عن تناقضه مع ما تقدم من القائل نفسه هو قوله:
فهو عين كل شيء في الظهور وما هو عين الأشياء في ذواتها، بل هو هو والأشياء أشياء.[35]
فالحق حق، والإنسان إنسان.[36]
فالرب رب، والعبد عبد.[37]
والأعجب من ذلك كله مزعمة من توهم أن هذه الكلمات المتناقضات في أنفسها تكون هي وجه التوفيق بين ما صدر عن "إبن عربي" صريحا في الاعتقاد ب··· "وحدة الوجود" وإنكار وجود الخلق، وبين ما يقضي به العقل والبرهان والضرورة والكتاب والسنة من ضلالة من تفوه بهذه الهفوات، فإن الاعتقاد بكون شيء "هو هو" و"هو غيره" يكون من أظهر مصاديق التناقض عند العقول السليمة التي تعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بغيره. قال مولانا الإمام الصادق عليه السلام:
يا جاهل، إذا قلت ليست هو فقد جعلتها غيره، وإذا قلت ليست غيره فقد جعلتها هو. [38]
ويقول عليه السلام:
لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة.[39]
والعلم هو ما صدر عن مشكاة النبوة والولاية، وأما ما يعارض ذلك فهو عين الضلالة والغواية، واللّه‏ أعلم حيث يجعل رسالته حيث يقول تبارك وتعالى:
«أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون».
«وإذا جائتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللّه‏، اللّه‏ أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند اللّه‏ وعذاب شديد بما كانوا يمكرون».[40]
«وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».[41]


[1] . بحار الأنوار، 10 / 198
[2] . المائده، 19
[3] . الطباطبايى، محمد حسين: تفسير الميزان، 1 / 411
[4] . الطباطبايي، محمد حسين: تفسير الميزان: 2 / 103
[5] . النحل، 49
[6] . بحار الأنوار، 3 / 333
[7] . بحار الأنوار، 4 / 294
[8] . بحار الأنوار، 4 / 178 ـ 179، عن التوحيد والعيون
[9] . بحار الأنوار، 4 / 269
[10] . بحار الأنوار 4، 179، عن التوحيد والعيون
[11] . بحار الأنوار، 4 / 181
[12] . بحار الأنوار، 4 / 222
[13] . بحار الأنوار، 4 / 254 ـ 255، عن الاحتجاج
[14] . بحار الأنوار، 4 / 255 ـ 256، عن الاحتجاج
[15] . بحار الأنوار، 4 / 263، عن العيون
[16] . بحار الأنوار، 4 / 270
[17] . بحار الأنوار، 4 / 299
[18] . بحار الأنوار، 3 / 318
[19] . بحار الأنوار، 10 / 176 ـ 177
[20] . الاحتجاج، 2 / 189
[21] . الطباطبايي، محمد حسين: تفسير الميزان، 13 / 75 ـ 77
[22] . النجم: 24
[23] . الطباطبايي، محمد حسين: تفسير الميزان، 8 / 46
[24] . الطباطبايي، محمد حسين: تفسير الميزان، 14 / 273
[25] . وهذا هو نفس مذهب أصالة الوجود واعتبارية الماهية، وإن لم يتنبه إلى ذلك كثير من الباحثين الفانين في دراسة الفلسفة والعرفان، والمفنين عمرهم في ذلك. فينزل على أساس هذه النظرية مسألة أن يخلق اللّه‏ تعالى شيئا لا من شيء أو يعدمها ويمحو رسمها عن صفحة الوجود ـ وهو أساس ما يخضع لديه العقول ويرسمه لنا الأديان ـ منزلة الأساطير الموهومة!
[26]. +واعلم أنه إذا قلنا بكون الأشياء حقائق واقعية قابلة للوجود والعدم لذاتها ومخلوقة بإيجاد خالقها، فكما يدل ذلك على بطلان القول بأصالة الوجود، فيدل على بطلان القول بأصالة الماهية التي تصوِّرها لنا الفلسفة أيضا، وذلك أن الماهية لا تكون على هذا المسلك الحق هي الحدود المنتزعة وهما عن حقيقة الوجود التي قد فرض أصالته، بل تعريف الماهية على هذا الوجه يكون بنفسه من متفرعات القول بأصالة الوجود، فكيف يمكن القول بأصالة الماهية على هذا التعريف المحرَف عن حقيقة معناه؟ والعجب ممن يزعم أنه يمكنه القول بأصالة الوجود مع إمكان تخلصه عن الاعتقاد بوحدة الوجود والاحتراز عن الالتزام بكون الخالق المتعال هو الموجود اللا متناهي المتجلي بصور الأعيان والكائنات، ولم يتنبه إلى أن القول بأصالة الوجود هو نفس القول بوحدة الوجود لا غير!!
[27] . الاسراء: 72
[28] . التوحيد: 438
[29] . ابن عربى: فصوص الحكم، الفص اليعقوبي، 1 / 96
[30]. شرح فصوص الحكم: 674
[31] . ابن العربى، فصوص الحكم: 93
[32] . ابن العربي: فصوص الحكم، الفص الهودي، 111
[33] . ابن العربي: فصوص الحكم، الفص النوحي: 68
[34] . ابن العربي: الفتوحات المكية: 2/ 459
[35] . ابن العربي: الفتوحات المكية، 2 / 484
[36] . ابن العربي: الفتوحات المكية، 1 / 183
[37] . محي الدين بن العربي، الفتوحات المكية: 3 / 224
[38] . التوحيد / 453
[39] . التوحيد: 246
[40] . الأنعام: 123 ـ 125
[41] . الشعراء ـ 228