الأحد، 27 سبتمبر 2015

موقف الأئمّة المعصومين (عليهم ‏السلام) من نظرية وحدة الوجود (السيد قاسم علي احمدي)




قد وردت روايات كثيرة في أنّ الأئمّة عليهم‏ السلام تبرّؤوا عن هذه الأقاويل والعقائد ، ونحن نذكر بعضها ، وهي على طوائف :
منها : ما ورد في بطلان القول بالصدور والترشّح والتطوّر .
عن مولانا أبي الحسن الرّضا عليه ‏السلام أنّه قال لابن قرّة النّصرانيّ : « ما تقول في المسيح » ؟ قال : يا سيّدي! إنّه من اللّه‏ . فقال : « وما تريد بقولك من ؟ ومن على أربعة أوجه لا خامس لها : أتريد بقولك من كالبعض من الكلّ فيكون مبعّضا ، أو كالخلّ من الخمر فيكون على سبيل الاستحالة ، أو كالولد من الوالد فيكون على سبيل المناكحة ، أو كالصّنعة من الصّانع فيكون على سبيل المخلوق من الخالق ، أو عندك وجه آخر فتعرفناه . . » فانقطع .(198)
أقول : هذا الحديث الشّريف نصّ على أنّ ما سوى اللّه‏ تعالى ليس قائما بذاته تعالى على سبيل الصدور والترشّح والفيضان ولا تكون نسبة الأشياء إلى الخالق تعالى إلاّ نسبة الخالقيّة والمخلوقيّة لا نسبة العينيّة والسّنخيّة والعلّيّة التطوّريّة .
وعن مولانا وسيّدنا سيّد الشّهداء عليه‏السلام في تفسير قوله تعالى : «لم يلد»قال : « لم يخرج منه شيء كثيف كالولد وسائر الأشياء الكثيفة الّتي تخرج من المخلوقين ، ولا شيء لطيف كالنّفس ، ولا يتشعّب منه البدوات كالسنة والنوم . . . تعالى أن يخرج منه شيء وأن يتولّد منه شيء كثيف أو لطيف . . . مبدع الأشياء وخالقها ومنشئ الأشياء بقدرته » .(199)
قال القاضي سعيد القمّي في شرحه : فالقول بأنّ المبدء هو الوجود بلا شرط ، و« أمره » هو الوجود بشرط لا أو بالعكس ، والمعلول هو الوجود بشرط شيء ، وكذا القول بأنّ المبدأ هو الوجود الشخصيّ المتشخّص بذاته الواقع في أعلى درجات التشكيك المشتمل على جميع المراتب السافلة . وبالجملة فالقول بكون المعلول عين العلّة بالذات وغيره بالاعتبارات السلبيّة ، وكذا القول بالجزئيّة سواء كانت من طرف العلّة أو المعلول ، أو القول بالأصليّة والفرعيّة ، والقول بالسنخيّة أو الترشّح أو العروض سواء كان الأخير من جهة العلّة أو المعلول ، والقول بالكمون والبروز وما يضاهي ذلك ، على حد الشّرك والكفر . وكلّ ذلك تولّد معنويّ وتناسل حقيقيّ وموجب لتهوّد القائل به ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه حيث قالت اليهود : «عزير ابن اللّه‏» والنصارى : «المسيح ابن‏اللّه‏» ، هذا مع قيام البراهين القواطع على بطلانها ، وشروق الدلائل السواطع على إمحائها . أحدها أنّه يلزم على تلك التقادير أن يكون المبدأ الأوّل علّة مادّية للكلّ . . (200)
أقول : فانظر ـ يا أخي ـ إلى كلام من كان من أساطين الفلسفة والعرفان وسلك مسلكهم في بعض المقامات ، كيف اعترف وحكم فيهم ـ أي الفلاسفة والعرفاء ـ بهذه التّعرّضات ، وقال بأنّ الاعتقاد بالسنخيّة والترشّح ووحدة الوجود و . . على حدّ الشرك والكفر والقول بها موجب لتهوّد القائل به ومستلزم لتنصّر الذاهب إليه .
ولنعم ما قيل :
 در خانه اگر كس است

  يك حرف بس است(201)

فهذا الحديث نصّ على أنّ الصدور من الذات والترشّح منها يساوي التولّد المحال في حقّه سبحانه ، والقول بوحدة الوجود يكون قولاً بأنّ اللّه‏ سبحانه والد ، لصدق الولادة على خروج كلّ شيء .
وعن أبي عبد اللّه‏ الصّادق عليه‏السلام : « سبحان اللّه‏ الّذي ليس كمثله شيء ، ولا تدركه الأبصار ، ولا يحيط به علم ، «لم يلد» لأنّ الولد يشبه أباه ، «ولم يولد» فيشبه من كان قبله ، «و لم يكن له» من خلقه «كفوا أحد» تعالى عن صفة من سواه علوّا كبيرا » .(202)
أقول : لا يخفى أنّ الصدور هو الولادة لا غير ، مضافا إلى أنّ المستفاد من قوله تعالى : « ليس كمثله شيء »(203) أمران :
أحدهما : يدلّ على نفي شيء مثله .
وثانيهما : يدلّ على وجود شيء ليس مثله وإلاّ لكان الكلام لغوا وغير مفيد ، فالمعنى هو أنّ ما هو غيره ليس مثله ، فالتوحيد الّذي نعتقده هو مفاد « ليس كمثله شيء » لا مفاد ليس شيء غيره ، ولا مفاد لا شيء غيره ، كما عليه العرفاء الصّوفيّة .
فلو كان التوحيد هو نفي الغير ولا شيء غيره وليس في الدار غيره ديّار ، فلا يجوز أن يقال : «ليس كمثله شيء» الموهم لوجود غيره غير المماثل له تعالى ، وأن يعبّر بجملة كانت ظاهرة في نفي المثل والشريك ، وهذا خلاف الفصاحة والبلاغة كما أفيد .
وهذا البيان يجري في الأخبار الدالّة على نفي التشبيه والسنخيّة وغيرهما كما هو واضح ولائح وهو مقتضي العبوديّة والربوبيّة أي مقتضى الإيمان بكوننا عبيدا للّه‏ تعالى وكونه ربّا لنا وللخلائق أجمعين .
عن يونس بن بهمن قال : قال لي يونس : اكتب إلى أبي الحسن عليه‏السلام ، فاسأله عن آدم هل فيه من جوهريّة اللّه‏ شيء . قال : فكتبت إليه ، فأجاب : «هذه المسألة مسألة رجل على غير السنّة» .(204)
عن يونس بن عبد الرحمن ، أنّه قال : كتبت إلى أبي الحسن الرضا عليه‏السلام ، سألته عن آدم هل كان فيه من جوهريّة الرّب شيء ؟ فكتب إليّ جواب كتابي : « ليس صاحب هذه المسئلة على شيء من السنّة ، زنديق » .(205)
أقول : هذان الحديثان أيضا نصّان في ما ذكرناه أي لا يكون ما سوى اللّه‏ صادرا وفيضا من ذاته تعالى .
عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه‏السلام : « لا يتغيّر اللّه‏ بانغيار المخلوق كما لا يتحدّد بتحديد المحدود » .(206)
أقول : لا يخفى أنّ مرجع التطوّر والتشؤّن إلى التغيّر والانقسام في العقل والوهم ، بل الوجود العيني الّذي أشار إليه أميرالمؤمنين عليه‏السلام في بيان معنى الواحد حيث قال عليه‏السلام : « . . لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم . .» .(207)
وعن أبي الحسن الرضا عليه‏السلام : « . . يوحّد ولايبعّض . .» .(208)
وعن أبي جعفر عليه‏السلام : « . . إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى خلو من خلقه وخلقه خلو منه . .» .(209)
أقول : يستفاد من قوله عليه ‏السلام : « خلو من خلقه » بطلان الترشّح ووحدة الوجود ، كما يستفاد من قوله : « خلقه خلو منه » بطلان القول بانبساطه تعالى على هياكل الموجودات كما سيأتي بيانه .
عن أبي الحسن الرضا عليه‏السلام : « هو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد الّذي لم يلد ولم يكن له كفوا أحد . منشئ الأشياء ومجسّم الأجسام ومصوّر الصّور ، لو كان كما يقولون لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ ، لكنّه المنشئ ، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه وبينه ، إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئا » .(210)
عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه‏السلام في مناظرته مع عمران الصابيّ قال عمران : يا سيّدي ! ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحدا لا شيء غيره ولا شيء معه أليس قد تغيّر بخلقه الخلق ؟ قال الرضا عليه‏السلام : « لم يتغيّر عزّ وجلّ بخلق الخلق ولكن الخلق يتغيّر بتغييره . . . قال عمران : يا سيّدي ! فإنّ الّذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق ، قال الرضا عليه‏السلام : « أحلت ـ يا عمران ـ في قولك أنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتّى يصيب الذّات منه ما يغيّره » . . . قال عمران : لم أر هذا ، ألا تخبرني يا سيّدي أهو في الخلق أم الخلق فيه ؟ قال الرضا عليه‏السلام : « جلّ ـ يا عمران ـ عن ذلك ، ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه ، تعالى عن ذلك ، وسأعلّمك ما تعرفه به ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه‏ » .(211)
عن الصّادق عليه‏السلام أنّه قال ـ حيث سئل عن وجوده تعالى بذاته في كلّ مكان ـ : « ويحك ! إنّ الأماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه ، محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا » .(212)
وعنه عليه‏السلام : « ويحك ! كيف تجترئ أن تصف ربّك بالتّغيّر من حال إلى حال ، وأنّه يجري عليه ما يجري على المخلوقين » .(213)
وعن أميرالمؤمنين عليه‏السلام : «ليس بذي كبر امتدّت به النهايات فكبّرته تجسيما ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا ، بل كبر شأنا وعظم سلطانا » .(214)
ومنها : ما ورد في امتناع ذاته تعالى عن أن تدرك
عن مولانا الصّادق عليه‏السلام : « . . فإن قالوا : أوليس قد نصفه ؟ فنقول : هو العزيز الحكيم الجواد الكريم قيل لهم : كلّ هذه صفات إقرار ، وليست صفات إحاطة ، فإنّا نعلم أنّه حكيم ولا نعلم بكنه ذلك منه ، وكذلك قدير وجواد وسائر صفاته . . » .(215)
وعن أميرالمؤمنين عليه‏السلام أنّه قال : « . . ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه وعن الأفهام أن تستغرقه . . » .(216)
وعنه أيضا : « . . قد ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام ؛ لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير . . » .(217)
وعنه عليه‏السلام أنّه قال : « . . ردعت عظمته العقول ، فلم تجد مساغا إلى بلوغ غاية ملكوته . . » .(218)
وعنه عليه‏السلام أنّه قال : « . . قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول . . » .(219)
إنّ الّذي يقال فيه تعالى : « مثبت ، موجود ، لا مبطل ولا معدود . . »(220) « وأنّه شيء موجود فقط » (221) ، « ومن يزد عليه ويقول : ما هو وكيف هو فقد هلك . . » (222) .
وعليه ، فالعلم بالوجود لا يلازم العلم بالذّات حتّى يقال : كيف يعلم وجوده ولا يعلم ذاته ، كما عن مولانا الصّادق عليه‏السلام حيث قال : « . . ليس علم الإنسان بأنّه موجود موجب له أن يعلم ما هو وكيف هو . . » .(223)
وعن أميرالمؤمنين عليه‏السلام أنّه قال : « . . لا يقال له ما هو لأنّه خلق الماهيّة . . » .(224)
وعن الإمام الصادق عليه‏السلام : « . . سبحان من لا يعلم أحد كيف هو إلاّ هو . . » .(225)
فالمعرفة الحقّة بل غاية ما يمكن أن يقال في التّعريف والتوصيف بالنسبة إلى ذاته تعالى : أنّه مثبت موجود وشيء بحقيقة الشيئيّة ؛ لأنّه لو لم يكن شيئا لم يكن موجودا ، ولو لم يكن موجودا لكان موهوما ، ولكن لا كالأشياء ؛ لأنّه لو كان كالأشياء لكان مصرفا محدودا ، فكان إذن حادثا لا يمتنع من الحوادث .(226)
وبعبارة أخرى : غاية ما يقال في باب معرفة اللّه‏ تعالى على ما يستفاد من الأدلّة أمران :
أحدهما : الخروج عن حدّ التعطيل ؛ بمعنى : الإيمان والاعتقاد بوجوده وثبوته تعالى بما له من الحياة والعلم والقدرة وغيرها من الكمالات في مقابل النّفي لوجوده تعالى أو لإحدى الكمالات . وهذا أوّل درجة المعرفة به تعالى .
ثانيهما : الخروج عن حدّ التشبيه ؛ بمعنى : المعرفة والاعتقاد بأنّه تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقين ، وأنّه مباين لهم في جميع أوصافهم ومنزّه عنها .
وقد ورد عن أبي عبد اللّه‏ عليه‏السلام أنّه قال : « . . اعلم ـ رحمك اللّه‏ ـ أنّ المذهب الصّحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه‏ جلّ وعزّ ، فانف عن اللّه‏ تعالى البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه . هو اللّه‏ الثابت الموجود ، تعالى اللّه‏ عمّا يصفه الواصفون ، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان . . » (227)
فهذا نزر يسير من الأخبار الكثيرة الواردة في أنّه تعالى خارج عن الحدّين ـ حدّ التعطيل وحدّ التّشبيه ـ وأنّه لا يجوز التفكّر والتكلّم والخوض في ذاته تعالى ، وأنّه تعالى لا يدرك بالحواس الظاهرة والباطنة وبالعقول والعلوم والأفهام وتوهّم القلوب . فالأخبار الدالّة على النهي عن الخوض والتكلّم والتعمّق والتفكّر في ذاته سبحانه واكتناهه تعالى تدلّ على بطلان المقالات الّتي قدّمناها من العرفاء والفلاسفة .
ثمّ إنّ القول بأنّه سبحانه ( وجود ) هو إخبار عن حقيقة ذاته تعالى ، وتعيين كنهه سبحانه بحقيقة الوجود الّتي هو حقيقة جميع الأشياء عندهم ـ بالرشح والفيضان أو التطوّر والتجلّي ـ ممنوع عقلاً وشرعا .(228)
وفرق بين القول بأنّه تعالى موجود ، ثابت ، محقق كما في الأخبار ، والقول بأنّه سبحانه وجود ؛ لأنّ الأوّل إخبار عن كونه شيئا حقيقيّا لا موهوما ولا باطلاً بخلاف الثاني فإنّه إخبار عن معرفة كنهه وحقيقة ذاته سبحانه كما سيأتي بيانه .(229)
ومنها : الأخبار الدالّة على أنّه سبحانه أبدع وخلق وأوجد العالم لا من شيء ، والقول بأنّ العالم عينه تعالى أو مرتبة من مراتب وجوده ينافي الإبداع والخلق والايجاد بالبداهة .
فليس ما سوى اللّه‏ صادرا عن ذاته حتّى يكون جزءه أو كلّه أو مرتبة من مراتب وجوده أو تطوّره .
ومنها : الأخبار الواردة في أنّه سبحانه لا يشبه شيئا من المخلوقين ، إذ هو مباين لهم في ذاتهم وأوصافهم ، ومنزّه عن مجانسة مخلوقاته .
وهذا هو العمدة في معرفة اللّه‏ تعالى وبه تمتاز المعارف الإلهيّة الحقّة عن غيرها من المعارف البشريّة .
وغير ذلك من الإشكالات الواردة على مقالة العرفاء والفلاسفة كما سيأتي إن شاء اللّه‏ تعالى .
والعجب العجاب من قول بعضهم : إنّ القول بأنّ للأشياء وجودا حقيقيّا أقرب إلى دعوى : شركة الممكن مع الواجب في الوجوب وكون الممكن واجبا ، وهو كفر من حيث لا يشعر .(230)
وما لي لا أعجب من أنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى حكم بكفر النصارى ولعنهم وطردهم وإبعادهم لأجل قولهم بحلوله في عيسى عليه‏السلام فقط ، فكيف بمن يقول بحلوله في جميع الأعيان والأكوان حتّى الكلاب والخنازير ، أو بإتّحاده معها ، أو بأنّه تعالى عين جميع الأشياء وليس في الخارج إلاّ وجود واحد وهو عين الأشياء فيلزم أن يكون المبدء عزّ اسمه عين الحيوانات النجسة و . . تعالى اللّه‏ عمّا يصفه الظالمون علوّاً كبيراً ، ونعوذ باللّه‏ ثمّ نعوذ باللّه‏ من هذه الأقاويل والأباطيل .
والشّيخ علاء الدولة السمنانيّ ـ مع غاية غلوّه واعتقاده في ابن العربيّ ، حتّى أنّه خاطبه في حواشيه على الفتوحات بقوله : أيّها الصدّيق ! أيّها المقرّب ! وأيّها الوليّ ! وأيّها العارف الحقّانيّ ! ـ كتب على قول ابن العربيّ في الفتوحات : ( سبحان من أظهر الأشياء وهو عينها )(231) ما لفظه : إنّ اللّه‏ لا يستحيي من الحقّ ، أيّها الشيخ ! لو سمعت من أحد أنّه يقول : فضلة الشيخ عين وجود الشيخ ، لا تسامحه البتّة ، بل تغضب عليه ، فكيف يسوغ لك أن تنسب هذا الهذيان إلى الملك الديّان ؟ ! تب إلى اللّه‏ توبة نصوحا لتنجو من هذه الورطة الوعرة الّتي يستنكف منها الدهريّون والطبيعيّون ! والسّلام على من اتّبع الهدى .
أقول : انظر إلى الأدلّة الّتي ذكرناها في المقام والأخبار الكثيرة الّتي بين يديك وذكرت نزرا منها في هذه الرسالة وكلمات الفقهاء العظام ، المروّجين لدين سيّد الأنام وأئمّة الكرام عليهم آلاف التحيّة والسلام ـ كما سنذكر كلمات بعضهم في باب مستقل إن شاء اللّه‏ تعالى ـ حتّى تعلم أيّ القولين أقرب إلى الشّرك ، القول بوحدة الخالق والمخلوق أو كونهما موجودين حقيقيّين أحدهما خالق والآخر مخلوق ؟ !
ويعجبني أن أذكر حديثا روي عن مولانا وسيّدنا وهادينا أبي عبد اللّه‏ الصّادق عليه‏السلام حيث قال : لعن اللّه‏ المعتزلة ، أرادت أن توحّدت فألحدت ، ورامت أن ترفع التشبيه فأثبتت .(232)
أقول : كفى في فضيحة القوم ذهابهم إلى ما عليه معظم النصارى مع أنّ المحذور اللازم لأتباعهم لازم لأتباع هؤلاء ، لجريان العلّة المذكورة فيهم .
ونحن نقول : إنّ اللّه‏ تبارك وتعالى جلّ أن تكون حقيقته من سنخ مخلوقاته كما ورد عن مولانا عليّ بن موسى الرّضا عليهماالسلام : « بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له ، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له ، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له » .(233)
والمفهوم من هذا الخبر وغيره من الأخبار هو البينونة الذّاتية بينه سبحانه وبين ما سواه من الممكنات .
وعنه عليه ‏السلام : « كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم » .(234)
والمفهوم منه ـ أيضا ـ بينونة الكائن القديم عن الكائن الحادث ، والموجود غير المسبوق بالعدم عن المسبوق بالعدم .
وعنه عليه ‏السلام : « . . بل أنشأته ليكون دليلاً عليك بأنّك بائن من الصنع » .(235)
وعنه عليه‏ السلام : « التّوحيد الإقرار بالوحدة وهو الانفراد ، والواحد المتباين الّذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء » .(236)
وعنه عليه‏السلام : « حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إيّاها إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها » .(237)
وعنه عليه‏السلام : « فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه ، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع من صانعه » .(238)
وعنه عليه‏السلام : « . . وكنهه تفرقة بينه وبين خلقه » .(239)
وعن ثامن الحجج عليه‏السلام : « من وصف اللّه‏ بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على اللّه‏ » .(240)
وعن سيّدالشهداء عليه‏السلام : « . . أنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين وهو الواحد الصمد ، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه » .(241)
وعن أميرالمؤمنين عليه‏السلام : « فمعاني الخلق عنه منفيّة . . . المعروف بغير كيفيّة ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالنّاس ، ولا تدركه الأبصار ، ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، فكلّ ما قدّره عقل أو عرف له مثل فهو محدود » .(242)
وتأمّل في هذه الأحاديث الّتي تنادى بأعلى صوتها على توحيد الخالق تعالى والتفريق بينه وبين خلقه ، وأنّه سبحانه متعال عن المقدار والعدد والحدود و . . ومبائن لكلّ شيء ومنزّه عن مجانسة مخلوقاته .
وهؤلاء الفلاسفة والعرفاء وقفوا في قبالهم عليهم ‏السلام وبالغوا في الإنكار والمكابرة والمعارضة وأصرّوا في جعله عزّ وجلّ عين خلقه ، زاعمين أنّ ذلك عين التوحيد مع أنّه عين الجحود والتشريك والإلحاد . وملاك التشبيه الّذي اقتضت الضرورة العقليّة والنقليّة بعدمه هو هذه العينيّة والسنخيّة .
فإن كنت قد اكتحلت عين بصيرتك بنور أخبار آل محمّد صلوات اللّه‏ وسلامه عليهم أجمعين يظهر لك حال من قال : إنّ الذات الإلهيّة هي الّتي تظهر بصور العالم ، وأنّ أصل تلك الحقائق وصورها تلك الذات ، وأنّها هي الّتي ظهرت في الصّورة الجوهريّة المطلقة الّتي قبلت هذه الصّور .(243)
وقال : فكلّ ما تدركه فهو وجود الحقّ في أعيان الممكنات .(244)
وقال : إنّ اللّه‏ تجلّى لي مرارا وقال : انصح عبادي ! .(245)
وقال : فإنّ الوجود منه أزليّ ومنه غير أزليّ وهو الحادث ، فالأزليّ وجود الحقّ لنفسه ، وغير الأزليّ وجود الحقّ بصور العالم الثابت فيسمّى حدوثا ، لأنّه يظهر بعضه لبعضه ، وظهر لنفسه بصور العالم ، فكمل الوجود وكانت حركة العالم حبيّة للكمال .(246)
أو من قال : إنّ واجب الوجود تمام الأشياء وكلّ الموجودات ، وعقد لذلك فصلاً مستقلاً .(247)
وبعد مراجعة العقل والوجدان والفطرة وأخبار العترة عليهم‏السلام كقولهم : « من شبّه اللّه‏ بخلقه فهو مشرك » .
أو قولهم : « من وصف اللّه‏ بوجه كالوجوه فقد كفر . . » .
ما تقضي وتحكم في القائل بهذه المقالات ؟ !
نعم : « من التمس الهدى في غيره ـ القرآن ـ أضلّه اللّه‏ » .(248)
وقد قال اللّه‏ تعالى : «فلا تضربوا للّه‏ الأمثال إنّه يعلم وأنتم لا تعلمون»(249) .
وقال : «لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار» .(250)
وقال : «من لم يحكم بما أنزل اللّه‏ فأولئك هم الكافرون» .(251)
وقال : «إنّ اللّه‏ لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء » .(252)
وقال : « إنه من يشرك باللّه‏ فقد حرّم اللّه‏ عليه الجنّة ومأواه النّار » .(253)
وقال : « ومن يشرك باللّه‏ فكأنّما خرّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق » .(254)
وهذه الآيات وغيرها تبيّن المقصود بوضوح .


الهامش:
(198) المناقب 4 / 351 ، بحارالأنوار 10 / 349 حديث7 .
(199) التّوحيد : 91 حديث5 ، بحارالأنوار 3 / 224 حديث14 .
(200) شرح توحيد الصّدوق 2 / 66 .
 (201) هذا من الأمثال المشهورة الّتي ترجمتها : لو كان في الدار ديّار لكفى كلمة واحدة .
(202) التوحيد : 104 حديث19 ، بحارالأنوار 3 / 304 حديث42 .
(203) الشورى : 11 .
(204) رجال الكشيّ : 492 حديث942 ، بحارالأنوار 3 / 292 حديث11 .
(205) رجال الكشيّ : 495 حديث950 ، بحارالأنوار 3 / 292 حديث12 .
(206) التوحيد : 37 حديث2 بحارالأنوار 4 / 229 حديث3 .
(207) التوحيد : 84 حديث3 ، بحارالأنوار 3 / 207 حديث1 .
(208) التوحيد : 47 حديث9 ، بحارالأنوار 3 / 297 حديث23 .
(209) التوحيد : 105 حديث3 ، 4 ، 5 ، بحارالأنوار 3 / 263 حديث20 .
(210) التوحيد : 185 حديث1 ، عيون الأخبار 1 / 127 حديث23 ، بحارالأنوار 4/173 .
(211) التوحيد : 433 ، عيون الأخبار 1 / 171 ، بحارالأنوار 10 / 312 .
(212) التوحيد : 133 حديث15 ، بحارالأنوار 3 / 323 حديث20 .
(213) الاحتجاج 2 / 408 ، الكافي 1 / 131 حديث2 ، بحارالأنوار 10 / 347 و55 / 15 .
(214) نهج البلاغة : 269 ، الاحتجاج 1 / 204 ، بحارالأنوار 4 / 261 حديث9 .
(215) توحيد المفضّل : 177 ، بحارالأنوار 3 / 147 .
(216) التوحيد : 70 حديث26 ، عيون الأخبار : 1 / 121 حديث15 ، بحارالأنوار 4 / 222 حديث2 و87 / 138 حديث7 .
(217) التوحيد : 51 حديث13 ، بحارالأنوار 4 / 275 حديث16 .
(218) نهج البلاغة : 217 ، بحارالأنوار 4 / 317 حديث42 و61 / 323 حديث2 .
(219) التوحيد : 70 حديث26 ، بحارالأنوار 4 / 222 حديث2 .
(220) كما عن الإمام الصادق عليه‏السلام أنظر : التوحيد : 140 حديث4 ، بحارالأنوار 4 / 68 حديث12 .
(221) أنظر : توحيد المفضّل : 179 ، بحارالأنوار 3 / 148 .
(222) لاحظ : بحارالأنوار 3 / 264 .
(223) توحيد المفضّل : 180 ، ولاحظ : بحارالأنوار 3 / 148 .
(224) روضة الواعظين 1 / 38 ، بحارالأنوار 3 / 297 حديث24 .
(225) الكافي 1 / 104 حديث1 ، بحارالأنوار 3 / 290 حديث5 ، التوحيد : 98 ، حديث4 .
(226) لاحظ : الأخبار الدالّة على أنّه تعالى خارج عن الحدّين ( حد الابطال وحدّ التشبيه ) .
(227) الكافي 1 / 100 حديث1 ، التوحيد : 102 حديث15 وص228 ، بحارالأنوار 3 / 261 حديث12 و5 / 31 حديث39 .
(228) وقد ورد عنهم عليهم‏السلام : « ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقته أصاب من مثّله ، ولا إيّاه عنى من شبّهه » . [ نهج البلاغة : 273 ، خطبة 186 ، أعلام الدين : 59 ] .
(229) لاحظ : الرابع والخامس ممّا يترتّب على القول بوحدة الوجود من المفاسد .
(230) رسالة لقاء اللّه‏ ، الملكي التبريزيّ : 127 .
(231) الفتوحات 2 / 604 .
(232) كنز الفوائد 1 / 126 ، بحارالأنوار 5 / 8 حديث8 .
(233) الكافي : 1 / 139 حديث 4 ، التوحيد : 37 حديث 2 ، الاحتجاج 2 / 400 ، بحارالأنوار 4 / 229 حديث 3 ، وص 305 حديث 34 ، و74 / 313 حديث 14 .
(234) نهج البلاغة : 40 ، الاحتجاج 1 / 199 ، بحارالأنوار 4 / 247 حديث5 .
(235) بحارالأنوار 99 / 167 .
(236) بحارالأنوار 3 / 223 .
(237) الكافي 1 / 135 حديث1 ، التوحيد : 42 حديث 3 ، بحارالأنوار 4 / 269 حديث 15 .
(238) التوحيد : 40 ، عيون الأخبار 1 / 153 ، الاحتجاج 2 / 400 ، بحارالأنوار 4 / 230 .
(239) تحف العقول : 63 ، لاحظ بحارالأنوار 4 / 228 ، والاحتجاج 2 / 399 ، والتوحيد : 36 .
(240) تفسير العيّاشيّ 1 / 373 حديث79 ، بحارالأنوار 4 / 53 حديث29 .
(241) تحف العقول : 244 ، بحارالأنوار 4 / 301 حديث29 .
(242) التوحيد : 79 حديث34 ، بحارالأنوار 4 / 294 حديث22 .
(243) شرح فصوص الحكم للقيصريّ : 70 .
(244) المصدر : 234 .
(245) المصدر : 244 .
(246) المصدر : 457 .
(247) الأسفار 6 / 110 .
(248) تفسير العيّاشيّ 1 / 3 حديث2 ، وبحارالأنوار 89 / 25 .
(249) النحل : 74 .
(250) الأنعام : 103 .
(251) المائدة : 44 .
وعنه عليه‏السلام : « كلّ حاكم يحكم بغير قولنا أهل البيت فهو طاغوت » .
[ مستدرك الوسائل 17 / 244 حديث7 ، عوالي اللآلي 2 / 161 حديث446 ] .
(252) النساء : 48 .
(253) المائدة : 72 .
(254) الحج : 31 .