الجمعة، 22 أغسطس 2014

عرفان أمير المؤمنين (عليه السلام) (الشيخ إبراهيم الأنصاري الخوئيني الزنجاني)

مقدمة: العرفان ضرورة دينية

اتفق الشيعة والسنة وغيرهما على نقل حديث عن الإمام الرضا (عليه السلام)، وهو قوله (عليه السلام): (الإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان)([1]).

ومضمونه متفق عليه، لأن الإسلام - كما في آيات كثيرة - دعا إلى (الإيمان والعمل والصالح)، واللسان مثل بقية الأعضاء، له نصيب من العمل، صالحًا كان أو فاسدًا، كما أن من المسلّم طلب تكميل كلّ من الجهات الثلاث من المرتبة الضعيفة إلى أعلى المراتب، وتكميل مراتب الاعتقاد يسمى بـ(العرفان).

وتكميل مراتب الاعتقاد له شُعبتان: (إحداهما) ترجع إلى العقل والنظر، (والثانية) إلى القلب والعواطف.

فالأولى اصطلحوا عليها بـ(علم الكلام)، والثانية بـ(علم العرفان).

وبتعبير آخر: العلم المتكفل لباطن الإنسان ومقاماته الغيبية يسمى بالعرفان، وحيث إن هذا عطش فطري موجود عند كل إنسان، فلذا لم يوجد دين سماوي أو أرضي إلا وفيه فرقة تدعو إلى العرفان، سواء في اليهودية أو المسيحية أو المجوسية أو الإسلام، أو في البوذية والهندوسية والكونفوشيوسية وغيرها.

ولكن هناك نكتة تجب الإشارة إليها، وهي:

أن كل حقيقة واقعية كما يوجد جَمْعٌ يتبنّونها بعنوان أنها حقيقة دينية، كذلك يوجد جمع يتّخذونها وسيلةً للمال أو الجاه أو ما شابه ذلك.

ولتمييز حقّها من باطلها، والمدّعِي لها حقًا عن المدّعِي لها رياءً ونفاقًا، معاييرٌ وموازين، لسنا في مقام بيان تفاصيلها، بل نريد الاكتفاء، بل الالتجاء إلى باب مدينة العلم والعرفان، إلى من هو ميزان الحقّ والباطل في كل ما يمكن أن يتّصف بهما، وهو إمام المتقين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ولا يمكننا التعرض لجميع جوانب عرفانه (عليه السلام)، بل نشير إلى نموذج منه، ولعله هو (عليه السلام) يجعله بابًا يفتح منه ألف باب:

1- التوحيد العرفاني

إن العرفان الصوفي يعتبر أن كمال توحيده تعالى الذي يسمونه (توحيد أخص الخواص) والمبالغة في تعظيم شانه ونفي الشريك عنه بالكليّة يقتضي إنكار حقائق الموجودات، وادعاء كونها جميعًا موجوداتٍ خيالية وهمية:

كل ما في الكون وهم أو خيال
 
 
أو عكوس في المرايا أو ظلال [2]
 

ويتهمون الاعتراف بحقائق واقعية غير الله تعالى - كما يقوله المتكلمون والفلاسفة المخالفون للصوفية - بكونه خروجًا عن التوحيد الخالص، بل داخلاً في الشرك بالنسبة إلى الواصلين بمرتبة التوحيد (أخص الخواص)، وإن كان مقبولاً من أهل المراتب الأخرى العاجزين القاصرين عن الوصول لتلك المرتبة، فهم يفتخرون ويتبجحون بالوصول إلى مرتبة لا يرون فيها موجودًا حقيقيًا غير الله تعالى، بخلاف بقية مراتب التوحيد، فإن أصحابها يتخيلون أن موجودات العالم كلها حقائق خارجية.

والحقّ أن ما استندوا إليه في موارد كثيرة من صريح كلامهم لإثبات هذه الدعوى صحيح، وهو أن المخلوقات بشراشر وجودها وكمون ذاتها وصفاتها لا تملك شيئًا إلا من الله حدوثًا وبقاء، فلا يتصور أن يستغنوا عنه تعالى، بل هم دائمًا محتاجون في جميع شؤونهم إلى باريهم.

وهذا أمر متفق عليه لا يجهله العوام فضلاً عن الخواص، ومجرد اتخاذه شعارًا وتكراره في الأشعار واللسان والقلم لا يدل على كون من ينادي به أشدّ علمًا أو إخلاصًا واعتقادًا به من غيره.

ولكن هذا المعنى لا يُثبت ما ادعوه من خيالية العالم وكون الموجودات بأجمعها موهومات، بل نقول إن الأمر بالعكس، لأن الاعتراف بعالم واقعيٍّ وموجودات حقيقية من سماء وأرض، وإنسان وحيوان، وجبال وبحار، ونجوم ومجرّات، وبالكرسي الذي وسع السماوات والأرض، وباللوح والقلم، والعرش العظيم، وعالم النور وما فيه، مما لا يعلمه إلا الذين هبطوا من ذلك العالم واطّلعوا عليه من المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين، إن الاعتراف بواقعية كل هذه المخلوقات أدلّ على عظمة خالقها وتوحيده من الاعتراف بربّ خلق موجودات وهمية ويحكم حكومة وهمية.

إذ لا ريب أن الإنسان يخلق في ذهنه موجودات وهمية ويصنع بقوّة الخيال سماوات وأرضين ومجرات وغير ذلك مما يحاكي المخلوقات التي خلقها الله تعالى.

فلو كانت مخلوقاته تعالى أيضًا وهمًا وخيالاً لا واقع له بل {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ}([3])، كما يفسّرونها به، فما الفرق بينه تعالى وبين عبيده؟!

ومنشأ المغالطة أنهم توهموا أنّه كلما بالغنا في تنزيل شأن المخلوق فقد رفعنا بالمقدار عينه من شأن الخالق، وكلما رفعنا من شأن المخلوقات واعترفنا بوجودها الحقيقي وبعظمة بعضها فقد نزّلنا من شأن خالقها، وجعلناها بمنزلة النّد والشريك لله تعالى، وابتعدنا عن التوحيد الخالص، ووقعنا في الشرك الخفي حقيقة، أو في نظر الواصلين إلى هذه المرتبة.

والحق أن هذا خلاف العقل والفطرة، فإن خالق الأمر الواقعي العظيم أولى بنفي الشريك عنه، فإن اعتقادنا أنه تعالى خالق سماوات واقعية ومجرات، وعرش وكرسي، وأرض، وإنسان وجنّ، وملائكة حقيقية، مع كون أزمّة جميع الأمور بيده، أدل على عظمة الخالق وأبلغ في الإخلاص والتوحيد من الاعتقاد بإله خالقٍ لسماوات وهمية وأرض وإنسان وجنّ وملك وعرش وكرسي خيالية، لا مادة لها ولا حقيقة، بل كلها مثل خيالات ذهننا وأوهامه، أو مثل صور المرآة وظلال الأجسام.

فالحق ما ذهب إليه المتكلمون والفلاسفة العقليون، من أن كمال التوحيد يقتضي الاعتقاد بكون الموجودات حقائق، فإن ترفيع شأنها ترفيع لشأن خالقها وإخلاص في توحيده.

2- العرفان والحلول والاتحاد

العرفان العلَوي يركّز على نفي كل نوع من الاتحاد والحلول ونحوهما، فضلاً عن الوحدة، فلا وجوده القدوس يليق بأن نراه في ضمن الكثرة بعد خلق الموجودات، كما أن صدور الوجود المنبسط - على اصطلاحهم-، وسريان الوجود الكلي، لا يقتضيان وحدته تعالى وسريانه في المخلوقات (الوحدة والكثرة)، ولا خالقيته تعالى من سنخ صدور شيء عن شيء، ليكون مقتضى قانون (فاقد الشيء لا يكون معطيًا له)، هو أن صدور الموجودات منه دليل على انطوائها في ذاته تعالى بعنوان (الكثرة والوحدة)، بل خلقه تعالى للأشياء من العدم المهيأ بعيد عن قانون (إن المعطي للشيء يجب أن يكون واجدًا له)، فلا صدور ولا انطواء (لم يلد)، بل خلقٌ وإيجاد من العدم، كما أن قانون (كن فيكون) يبطل حلوله في خلقه وسريانه فيه على ما هو مقتضى قانون (الوحدة والكثرة) فليست نسبة وجوده إلى الموجودات من سنخ انطوائه فيها واحتوائها إياه، فلا يصح فرض مجموعة واقعية مشتملة عليه تعالى كما في العرفان المنحرف.

وهذا من أهم الفروق بين عرفان أمير المؤمنين (عليه السلام) وعرفان المدّعين بأن الخالق هو المخلوق،وأن العبودية جوهرة كنهها الربوبية، بل القرآن والحديث وبالخصوص عرفان أمير المؤمنين (عليه السلام) يركّز على نفي جميع أنواع الوحدة والاتحاد والسريان وغيرها، فيقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أنت المولى وأنا العبد... وأنت المالك وأنا المملوك... وأنت العزيز وأنا الذليل... أنت الخالق وأنا المخلوق... وأنت العظيم وأنا الحقير... وأنت الغني وأنا الفقير... أنت الباقي وأنا الفاني... وأنت الربّ وأنا المربوب...)، فكل من هذه الكلمات تثبت المباينة في عين الحضور وعدم الاتحاد في عين الإحاطة والشهود.

3- رُبَّ عارفٍ يعبد نفسه

العارف في العرفان المصطلح يجعل اتصافه بهذه الصفات هدفًا، فيعبد الله لأمور روحية من صفاء ومكاشفة وكشف حجب وغير ذلك من أهدافٍ ترجع إلى روحه، كما أن بعض المثقفين يعلّلون الدين بأهداف مادية جسمانية من تقوية البدن وسلامة الأعصاب وتنظيم حركات القلب، وكلاهما يعبدان أنفسهما: هذا يعبد جسمه، وذاك روحه.

وأما العرفان العلَوي، فإنه يركّز على التعبد، فلا يعبد الله لشيء يرجع إلى جسمه، ولا لشيء يرجع إلى روحه، بل تعبّدًا بأمره ونهيه، كما هو مقتضى العبودية وطريقة المتكلمين والفقهاء.

4- تعميم العرفان وابتذاله

لا إشكال أن من جملة طرق محاربة أيّ حقيقة والتقليل من شأنها، هو تعميمها وبذلها لمن ليس أهلاً لها، كما لو فرضنا أنّا أطلقنا كلمة (آية الله العظمى) على كل معمّم عنده شيء من العلم، فإنه لا يرفع من شأنهم شيئًا، وإنما ينزّل من قيمة هذه الكلمة، وكذا لو فرضنا أن كل من ورد إلى الحوزة العلمية بدأ بتدريس الكفاية أو حضر في درسها أو حضر درس الخارج، فإنه يسقط قدر هذه الأمور ولا يرفع من قدر نفسه.

ومن هذا الباب نرى أمير المؤمنين (عليه السلام) مع كثرة الأدعية والخطب الواردة عنه، قد قلّل من النكات التي تعدّ من الرموز والإشارات العرفانية في كلماته، حتى أن بعضهم جمعها على زعمه في كتاب مستقل، ومع ذلك لم يجد شيئًا معتدًا به، رغم أنه تمسّك: بكل ما فيه شيء من مشتقات (عرف، يعرف)، حتى العبارات التي فيها ردّ صريح للعرفان المصطلح.

وكذلك سائر أئمتنا (عليهم السلام)، فإن كلامهم إما مباين لمباني العرفان المصطلح، أو غير متعرّض له.

وهذا دليل على أنهم نظروا إلى العرفان - أي ما كان مقبولاً عندهم - نظرة الاحترام، فضنوا به عن غير أهله، ومنعوا من تعميمه والحط من كرامته، على خلاف العرفان المصطلح الذي يسعى أهله في تعميمه وابتذاله.

5- تبديل الوسيلة إلى غاية

التأمل في القرآن وكلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) يفيد أنه لم يكن ينظر إلى الحب والودّ والتوكّل بنظرة استقلالية وصفتية، كما في القطع الموضوعي، بل بنظرة مرآتية بحيث لا يرى إلا المحبوب والربّ وجلاله وجماله وكماله، فلا ترى في كلماته التركيز على نفس هذه الصفات إلا قليلاً.

بخلاف العرفان المصطلح، فإنه ينظر إلى هذه الصفات بنظر استقلالي، فيركّز على صفة الحب والفناء والعشق والتيه وغير ذلك، أكثر من ذكر المحبوب والمعشوق و... المفني فيه.

6- الأنانية العرفانية

العرفان العلَوي يستغرق في وصف كمال المحبوب وجماله جلاله، ويسترسل فيه كما في دعاء الافتتاح، وكميل، والصباح، وغيرها، ولا يلتفت إلى نفس الداعي إلا أحيانًا قليلة، بخلاف العرفان المصطلح، فإنه يغلب فيه مدح نفسه أو جماعته بعنوان (أنا أو نحن) ويسترسل في أنه عاشق أو فانٍ أو تايه، أو واله، أو ما شابه ذلك، أكثر من توجّهه إلى ربّه.

والفرق بين العرفانَين هو أن النظر في العرفان العلوي يركز على الصفة أو متعلَّقها، بينما في العرفان المصطلح ينظر إلى الموصوف المدّعي لصفة العشق ونحوه، أو المعشوق والمحبوب وما شابه، وربما يوجّهون عملهم عن طريق وحدة العاشق والمعشوق، والفاني والمفني فيه، وفيه ما فيه...

7- المفاهيم أو الحقايق

إن المدعين للعرفان المصطلح يهمّهم علم العرفان والخوض في مفاهيمه والعناوين المطروحة فيه بالحمل الأولي، أعني مفهوم الحب والتيه والفناء وما شابه ذلك، حتى أنهم يرون القدرة على تصوّرها وفهم مراتبها دليلاً على الوصول إلى واقعها، وربما تساعدهم قوّة الخيال بأن يعتقدوا لأنفسهم ذلك.

وهذا بخلاف العرفان العلَوي، فإنه يسعى لتحصيل واقع هذه الصفات بالحمل الشايع ولا يقدر الشيطان ولا قوّة الخيال على تلبيس الأمر عليهم حتى يتخيّلوا الوصول إلى بعض هذه المراتب بمجرد قدرتهم على تصوّرها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
* أستاذ العقائد في الحوزة العلمية في قمّ المشرفة.
[1] - راجع وسائل الشيعة (آل البيت): 15/329، ب46 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، ح33. وهي مروية عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضًا، راجع نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، دار الوفاء، بيروت: 4/50، خطبة رقم 227. وراجع سنن ابن ماجة. محمد بن يزيد القزويني، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي،دار الفكر - بيروت،  ج1 ص26.
[2] - البيت مطلع غزل للعارف عبد الرحمن الجامي في ديوانه، راجع تفسير آيات القرآن الكريم للسيد مصطفى الخميني، الطبعة الأولى 1418 هـ، مؤسسة العروج: 1/ 131.
[3] - سورة النور: من الآية39.
المصدر: http://www.al-najaf.org/resalah/6/3-erfane.htm

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق