الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

نظرية وحدة الوجود.. بحث مقارن (السيد محمد تقي المدرسي)



   هناك ادلة وحجج أقامها القائلون بوحدة الوجود، وتلك الأدلة إنما تترتب وفق مراحل ؛ ففي البدء حاولوا إثبات أصالة الوجود في مقابل من قال وتبنى أصالة الماهية، ثم حاولوا إثبات أصالة تحقق الوجود أو جعل الوجود، ثم تدرجوا الى قضية وحدة الوجود. وفي الواقع ؛ إن كل المراحل العقلية التي حاول القائلون بأصالة الوجود التدرج عبرها الى هذه القضية والفكرة، كلها تحتاج الى أدلة أكثر إقناعا من التي ذكروها.

   ولكي نسلط المزيد من الضوء على فكرة (أصالة الوجود) عند أولئك القوم، ونوضح الأسس العقلية التي اعتمدوها لإثباتها، ترانا بحاجة الى استعراض بعض الحقائق التمهيدية التي تنفعنا ؛ ليس في إطار إثبات أو نقض فكرة أصالة الوجود فحسب، وإنما أيضا في كافة المسائل والأفكار الفلسفية الأخرى. والسبب في ذلك أن هذه الحقائق التمهيدية هي حقائق منهجية، أي ترتبط بمنهجية تفكير الإنسان.

  ترى بماذا أثبتنا وجود أنفسنا ؟ وبماذا عرفنا وجود الكون من حولنا ؟ وبماذا إستطعنا أن نثبت للجاحدين وجود ربنا سبحانه وتعالى ؟ وبماذا نتفاهم نحن فيما بيننا ؟..

   إن الإجابة على كل هذه التساؤلات هي إجابة واحدة ومعروفة  منذ أن خلق الله تبارك وتعالى الانسان الأول : بالعقل.

    بالعقل يتم الاثبات :

   العقل هو الذي يصرّح بأن الانسان كائن موجود، وهو الذي قال للإنسان بأن الكون من حوله موجود، وهو الذي قال له بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه. فالعقل مصباح الهداية والنور الذي يأخذ بيد الانسان نحو النجاة في كل هذه المراحل.

   وأتساءل: إذا كان العقل هو النور الذي يمشي مع الانسان في كل حقل وميدان؛ هل من الصحيح إيداعه جانباً والاكتفاء بالاستدلال بمجموعة أفكار وحجج غريبة، رغم المعرفة المسبقة من قبل المخلوق بأن عقله هو الحجة الاصلية ؟

   ولنضرب مثلاً في ذلك : إن المرء حينما يفتح عينيه يرى مجموعة من الأشياء أمامه من قبيل: الاجسام، والاحجام، والابعاد، والالوان، وغيرها، ولكنه حينما تنعدم عنده الرؤية بسبب اشكال في عينيه أو بسبب انعدام النور في المكان، ويُسأل عن مقدار المسافة بينه وبين نهاية الغرفة الواقف فيها، فأنه يقوم بحساب المسافة عبر الاستنتاج من مجموعة معلومات حصل عليها مسبقاً، من قبيل المسافة التي تفصل بينه وبين الواقفين أمامه وبينهم وبين نقطة النهاية حتى يحصل على النتيجة المطلوبة.

   ولكن إذا كان بصره سليما وكانت الاضاءة في جو الغرفة متوفرة، فإنه لايحتاج الى حساب المسافة كما فعل في السابق. وهذا يعني فيما يعني أن العقل بإمكانه الأخذ بيد الانسان في الحالتين ؛ في الحالة الطبيعية وفي الحالة الاضطرارية. ومن غير الجميل بالانسان صاحب العقل السليم والامكانات الطبيعية أن يختار الطريق الأصعب عليه ، لإثبات أوضح الواضحات. إذ أن من رفعة مكانة المرء في حياته الاستغناء عن الوسائل ما دام هو في غنى عنها...

       لا.. لتجميد العقل :

   إن العقل الذي استفدنا منه في هضم واستيعاب السابقيات العقلية والعلمية واستفدنا منه استحالة اجتماع النقيضين، واستفدنا منه في الاكتشافات والاختراعات.. لا يزال هذا العقل موجوداً عندنا وبإمكانه أن يكشف لنا عن حقائق أبعد وفق طريقته في الاكتشاف والتحرك والفاعلية، فلماذا نتركه باتجاه التوسل بما هو دونه ؟!

   لقد خلع الاشاعرة - الذين هم في الواقع عبارة  عن ردة فعل عن المعتزلة - أفكار المعتزلة بعد أن خلعوا أفكارهم أيضا، فقال هؤلاء إن النص الديني هو المعيار في تحديد الحسن والقبح في الأمور والاشياء ؛ وأنه لا وجود لشيء يدعى بالحسن والقبح العقليين.

  ولكنني حينما أعود وأسأل الانسان المنصف والباحث عن الحقيقة : بم عرفت ربك ؟ إنه سيجيب : بعقلي. وأسأله مرة أخرى إذا كان العقل هو المكتشف لوجود الرب، فلماذا يعجز عن تشخيص وتحديد الحسن من القبح ؟ وإذا عجز عن الجواب فإني أعرب له عن التناقض الذي وقع فيه واقول له : إن المذهب الحق يؤكد بأن العقل حجة في الاكتشاف بذاته. ذلك لأن من يعتقد دون ذلك يلزمه الامتناع عن قبول حجية العقل في إثبات وجود الله سبحانه وتعالى، لأنه غير ثابت الحجية على وجه القطع. و تسلسل البحث والاستقراء المنطقي يرفض أن تكون الحجة حجة مشوشة، بإعتبار أن سلسلة أفكارنا برمتها ستصبح غير ذات اساس متين أو مطمئن..

   إننا نلجأ في إطار إثبات الخالق وإثبات مختلف الوجودات والقضايا الاخرى الى أحد اسلوبين :

   الأول: يكمن في توفير الحجج المنطقية التي تستمد شرعيتها وقوتها بالتسلسل من العقل.

   والثاني : هو أقرب بكثير من الاسلوب الاول وهو اسلوب الاحتجاج بالعقل مباشرة، وهذا الاسلوب نسميه الفطرة. فالفطرة بوسعها أن تدلنا على أن السماوات والارض وبقية المخلوقات هي في ذاتها أشياء متحققة، وأن تدلنا على أن الاشياء كلها تنتهي الى وجود وماهية، وأن الأصل هو الوجود وأن الماهية شيء طارئ. ولقد قدمنا في بعض ما سبق من موضوعات أن على الانسان أن يعود الى وجدانه وان يستنطق ضميره، وبالتالي أن يعود الى عقله.

   ثـم إن العرف أو عرف العقلاء بما يمثل من أبعاد، يشكل ما تقبله العقول مجتمعةً. فإذا كان الناس يتضاربون ويتناقضون في إطار الهوى والميول النفسية والمذاقات والتحسس، فإنهم لاريب في اجتماعهم على المعقولات، نظراً الى أن عقل الانسان هو هو منذ أول إنسان وضع قدمه على سطح الأرض حتى آخر إنسان يخرج من الدنيا عند قيام الساعة.

   فـإذا كان  الناس يختلفون في مذاق هذا الطعام أو ذاك، وإذا كان بعضهم يفضل هذا النوع من اللباس ويعارضهم آخرون، فإنهم يجتمعون على قبول المعقولات.

   علىأننا حينما نستشهد بالعرف، فانما نقصد منه الفهم والاستيعاب للمعقولات من حيث الواقع الخارجي على أقل تقدير. بمعنى أن الناس يفهمون من السماء وجود السماء، ولا يعنينا هنا ما يفسرون به أو يعبرون به عن هذا الوجود وكيفيته؛ أي أن الذي يهمنا من قضية العرف العاقل هو ما تفهمه عقول الناس بفطرتهم البريئة والخاليـة من التراكمات والسابقيات التربويـة والثقافيـة. وهذا الواقع بحد ذاته حجـة فـي الاستدلال أو التوضيح، وهذه الحجية مستمدة من قبول العقل لها وقناعتـه بهـا.

العلـة والمعلـول :

وثمة فكرة مشهورة بين الفلاسفة نود مناقشتها في هذا الاطار، وهي الفكرة القائلة بلزوم أن تكون العلة من سنخ المعلول ؛ بمعنى أن من المستحيل أن تولد النار البرودة، ومن المستحيل أن يفرز الثلج الحرارة. فالانسان الطيب يخرج منه العمل الصالح، والذي خبث لا يخرج منه إلاّ النكد. وهذا قانون عقلي.

   إلاّ اننا نقول : قد تكون نظرية العلة والمعلول صحيحة، ولكن لابد من التأكيد على لزوم ان يكون الطرفان من جنس واحد ؛ وضرورة أن العلة تحتوي المعلول بصورة أو بأخرى، إذ المعلول هو عبارة عن خروج الشيء بعد كمونه. وهذه التعبيرات كلها تنتهي الى قول واحد، وهو أن كل شيء يولد شيئاً مماثلاً له، وأن الشيء لا يفرز إلاّ مثيله.

   لقد استدل القائلون بنظرية وحدة الوجود على صحة مذهبهم بقانون العلة والمعلول مؤكدين بأن الخالق هو الوجود وأن المخلوق هو التجلي لهذا الوجود، وبالتالي فهما شيئان في شيء واحد ؛ أي أن الخالق والمخلوق هما من قماشة واحدة، وأنه مادام هذا وذاك شيء واحد فيجب ان يفرز الأصل مثيلاً له. ومن هنا بالذات يتضح أصل التعبير الصوفي السالف : لو أن المسلم كان يعلم ماهو الصنم لاعتقد بأن عبادته عبادة لله تعالى قدسه..

الدور والتسلسل : 
ولنا في ذلك مناقشات وردود، منها :

   1- إننا لو أثبتنا وحدة الخالق والمخلوق وأنهما في الحقيقة شيء واحد لاستغنينا عن الخالق. فنحن إنما آمنا بالخالق لأننا وجدنا في وجودنا وأنفسنا الضعف والعجز والاختلاف والتناقض والحاجة، نظراً الى أن هذا المخلوق المحتاج والمحدود والمحدث بحاجة الى خالق بخلافه يختلف معه. ولو كان الخالق مثل المخلوق فيجب على هذا الاخير البحث عن خالق أعلى من الأول، وهكذا يبقى البحث في تسلسل مستمر الى ما لانهاية.

   ويشير أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الاطار الى أنه " الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لا شبه له... مستشهدٌ بحدوث الاشياء على ازليته، وبما وسمها به من العجز على قدرته.. وبمـا اضطرها اليه من الفناء على دوامه.." ([1]) وبالفعـل هكذا كان، فلماذا نتجاوز قابليـة الفطرة فينـا، حيث نجد الإجابات واضحة وناصعة ونركب الامواج

المتلاطمـة لاثبـات ذلك؟!

      علاقـة المخلـوق بالخالـق :

   2- إن قانون العلة والمعلول إنما تصح مصداقيته إذا كان هناك تجانس بين الجانبين، ولكن من قال بأن الخلق معلول الخالق ؟ والحال يشير الى أن الخلق مخلوق الخالق، والعلاقة إنما هي علاقة مخلوق بخالقه وليس علاقة معلول بِعِلّته. ونحن كمخلوقين نعجز تمام العجز عن إدراك وتصور نوع هذه العلاقة، لأننا لا نستطيع أن نحيط علما بالرب جل جلاله، حيث أننا لم نعط القدرة على التصور والاحاطة. فالله أكبر من أن يوصف، وهو لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار، وقد سمت العقول إلاّ اليه، والله نفسه يقول في القرآن المجيد : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } (الكهف/51(.

   إننا كمخلوقين لم نكن واعين وشاهدين على كيفية خلق أنفسنا، ولا يمكننا القول بأن الخلق قد تمّ وفق قانون العلة والمعلول.

   نعم ؛ قد يمكن من حيث الوجهة اللغوية القول بأن الله سبحانه وتعالى هو علة الخلائق أو أنه علة العلل ؛ غير أن هذا ليس إلا مجرد تعبير فضفاض، وأن مجرد التعبير لا يسعه أن يكون دليلا ًعقلياً. أو لنقل أن الدليل العقلي لا يستقر على مجرد تعبير مشوش.

   وما نعهده من الأمثلة من الحرارة والنار والبرودة والثلج وسنخية العلة، فهي كلها تأتي في حدود المخلوقين، وليس في حدود تعريف العلاقة بين الخالق والمخلوق.

   وبفطرتنا النزيهة نعرف أن الخالق غير المخلوق، وأنه لا يصح بوجه من الوجوه

القياس بين الرب والمربوب، بين القادر والعاجز، بين الغني والفقير.

        منطـق الروايـات :

   وهناك روايات عديدة وردتنا عن النبي وعن أئمة اهل البيت عليهم السلام في هذا الاطار، فضلاً عن الكم الهائل من الآيات المباركة الخاصة بتعريف الله صفاته وبالفصل بين ذاته وبين مخلوقاته.

   1/ فقد سُئل الامام أمير المؤمنين عليه السلام عن إمكانية القول بأن الله شيء ؟ فأجاب الامام عليه السلام : " نعم ؛ تخرجه من الحدين : حد التعطيل وحد التشبيه ". ([2]) وبهذا التعبير الموجز يقسّم الامام عليه السلام الناس من حيث الايمان الى ثلاثة أقسام ؛ فمن أثبته بتشبيه فإنه مشرك، ومن نفاه فإنه كافر، ومن أثبته بلا شبه وبلا تشبيه فهو الموحّد.

   فانت حينما تقول : الله عالم، تكون قد أخرجته من حد الجهل ؛ ولكنك في الوقت ذاته تقف حائرا عاجزا حينما تريد أن تصف علمه حق الوصف. وهكذا الواقع بالنسبة الى باقي الصفات، فهو قادر غير عاجز، ولكن لا احد يعلم اسرار القدرة الالهية. وهذا أمر طبيعي ومنطقي من حيث وجود الخط الفاصل بين الخالق والمخلوق. ولو تساوى الطرفان في علم ما لديهما فضلاً عن قدرتهما، إذن، لانتفت الحقيقة القائلة بوجود خالق ومخلوق، ويصح القول - والعيـاذ بالله - بأن ثمّ شركاء لله في ربوبيته.

   2/ ويقول الامام علي عليه السلام: " ما رأيت شيئا إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه ". فالاشياء الموجودة تهدينا الى رب العزة، فعدمها الاول يعني وجود ماسبقها، ووجودها الحاضر يعني وجود من يمدها بالحياة، وعدمها الثاني يعني بقاء من أماتها.

   3/ ويقول الامام علي عليه السلام في الخطبة الاولى من نهج البلاغة "...موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة...". وهذا يعني الفصل بين كل شيء وبين الخالق لكل شيء، وانعدام المقارنة والعجز عنها إنما يحدد طبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق.

   4/ وقال أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً: "... فبعظمته ونوره أبصره قلوب المؤمنين، وبعظمته ونوره عاداه الجاهلون، وبعظمته ونوره ابتغى من في السموات والأرض من جميع خلائقه اليه الوسيلة بالأعمال المختلفة والأديان المشتبهة... وهو حياة كل شيء ونور كل شيء... هو هاهنا وهاهنا وفوق وتحت ومحيط بنا ومعنا وهو قوله : " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم"... وكيف يحمل حملة العرش الله وبحياته حييَت قلوبهم وبنوره اهتدوا الى معرفته ؟ ([3])

   إن منطق الروايات الشريفة عن النبي وأهل بيته ( عليهم السلام ) مختلف اختلافاً كلياً عما نص عليه فلاسفة البشر من ان كل الموجودات وَهْم، أو ان الموجودات ما هي إلا ظلال لنور الله سبحانه وتعالى. او أن قضية وحدة الوجود عسيرة النيل وبالغة التحقيق وبعيدة الغور، وانه لايذهب الى هذا المذهب إلاّ العرفاء الالهيون والأولياء الحقيقيون. أقول : إن مثل هذه الشطحات وقع فيها من وقع بسبب تركهم العنان للخيال، وبسبب اعتقادهم الواضح في عدم حاجتهم لما تشير اليه الآيات القرآنية والروايات الواردة بخصوص وصف الخالق وتحديد المخلوق.

    وخلاصة القول؛ إن مسألة وحدة الوجود بحاجة الى مجموعة إثباتات، والانسان يستطيع عبر إدراكه الفطري للمسافة القائمة بينه وبين ربه أن يعرف الثنائيـة البينونيـة الذاتيـة بيـن السيد وعبده، وهذا أقوى دليل وأعظم برهان على عدم صحة القول بوحدة الوجود، مضافـاً الى أن أدلة وحدة الوجود والتي أبرزها سنخيـة العلـة والمعلول غير مجدية وغيـر كافيـة.
الهوامش:

([1]) نهج البلاغة / الخطبة 185.

([2]) بحار الأنوار / ج 3 / ص 260 / رواية 260.

([3]) بحار الأنوار / ج 55 / ص10 / رواية 8.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق