الثلاثاء، 2 سبتمبر 2014

شأن العقل في طریق معرفة الله تعالى (الشيخ حسن الميلاني)









إشارة



إنك لا ترى أحدا من الفلاسفة والعرفاء وعقلاء البشر ـ فضلا عن جهالهم ـ أن یكون مصیبا في طریق معرفة الله ویعرفه حق معرفته، وذلك أن العقل على شرافته وعلو شأنه فشأنه شأن الباصرة مع النور حیث لا ینفع وجودها إلا مع وجوده. والنور هاهنا هو بیان الخالق تعالی وأولیائه المعصومون علیهم السلام .



ثم إنه حیث لا تتم الحجة بقیام أحدهما دون الأخرى فلا یصح ترجیح إحدى الحجتین ـ من العقل والبیان ـ على الأخرى كما یفعله الفلسفي فإن كل واحد منهما یكمّل حجیة الآخر، ویقصر عن إفادة المطلوب باستقلاله، فلا وجه لتوهم المعارضة بینهما أصلا.



فلا تحصل المعرفة ولا تتم الحجة إلا بمعرفة الحجة سلام الله علیه أبدا وتصبح بذلك أصول الدین منحصرة بأصل واحد وهو معرفة المعصوم والتسلیم المطلق لدیه لا غیر،



وإلیك تفصیل البحث:

عظمة شأن العقل



لك أن تقول: إذا كان لا تحصل معرفة الله تعالى إلا ببیان منه تعالی وهدایته فما شأن العقل في طریق معرفة الله‏، وكیف لا یلزم أن تكون المعرفة على ما قلت تعبدیة غیر عقلیة؟!



فأقول: لا شبهة في شرافة قدر العقل وعظمة شأنه، وهو الذي ورد فیه عن العصمة الرّبانیة:



رسول الله صلی الله علیه وآله ‏وسلم:



قوام المرء عقله، لا دین لمن لا عقل له.[1]



لا عدم أشد من عدم العقل.[2]


الإمام الكاظم علیه السلام:



إن الله تبارك وتعالى بشّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال «فبشر عباد الذین یستمعون القول فیتبعون أحسنه[3] أولئك الذین هداهم الله وأولئك هم أولوالالباب».[4]



... ثم ذمّ الذین لا یعقلون فقال:... «إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذین لا یعقلون».[5]



كان أمیر المؤمنین صلوات الله علیه یقول: ما من شيء عبد الله به أفضل من العقل... وإن ضوء الروح العقل، فإذا كان العبد عاقلا كان عالما بربه، وإذا كان عالما بربه أبصر دینه... ما قسم الله بین العباد أفضل من العقل، نوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، وما بعث الله نبیا إلا عاقلا حتى یكون عقله أفضل من جمیع جهد المجتهدین، وما أدي العبد فریضة من فرائض الله حتى عقل عنه.[6]


العقل أو المعصوم؟!



فأقول جوابا عن سؤالك عن شأن العقل في معرفة الله تعالى:



إن امتناع حصول العلم والإقرار بوجود الخالق بلا رجوع إلى البیان، وإنسداد طریق إثبات وجود الخالق إلا من بیان الحجج لا یستلزم أن یكون الأمر تعبدیا غیر عقلي، فلا منافاة بین وجوب الرجوع إلی البیان والأخذ بالعقل.



توضیح ذلك: إنك تارة ترجع إلی البیان وتسأله عن شيء فیجیبك فتقبل قوله لا عن فهم علة الحكم وملاكه ـ كوجوب الإخفات في الظهر ـ مثلا فهو تعبد لا غیر، ومرة أخرى تفهم شیئا بنفسك بلا رجوع إلى أحد كالحكم باستحالة اجتماع النقیضین مثلا وذاك عقلي صرف، ومرة ثالثة تفكر في مشكلة فلا تقدر على حلّها، ثم ترجع إلى غیرك فیستدل لك علیها ببرهان تعقله وتفهمه بعقلك، فتنحل عقدتك من بیانه بقنوع من نفسك، فلیس هذا من التعبد في شيء.



فللعقل في هذه المسألة الثالثة شأن عظیم بحیث أنه لو لا أنك كنت عاقلا لما نفعك البیان، كما أن للبیان أیضا هاهنا لشأنا عظیما لأنه لو لم یكن یصل إلیك البیان لكان عقلك قاصرا عن حلّ المشكلة بنفسه.

وذلك كما أن صحیح العین لا یرى إلا بالنور، والنور أیضا لا ینفع إلا من له عین صحیحة، ولا تحصل الرؤیة إلا بهما معا. وهذا هو الحال

بعینه في حصول العلم بوجود الله تعالى، فإنه لو لم یكن التعریف والبیان من الله تعالى لما حصلت المعرفة ولو لأشرف مخلوق وأكمل موجود:



الإمام الصادق علیه السلام:



لو لا الله ما عرفناه. [7]



كما أنه لو لم یمنّ أصحاب الوحى علیهم السلام بتعریف الخالق تعالى لغیرهم لما حصلت المعرفة لاحد أبدا:



ولو لا نحن ما عرف الله‏.[8]



الإمام المهدي علیه السلام:



نحن صنائع ربنا والخلق بعد صنائعنا.[9]



الإمام الصادق علیه السلام:



بنا عرف الله‏، وبنا عبد الله‏. نحن الأدلاء على الله‏، ولو لا نا ما عبد الله‏.[10]



الإمام الباقر علیه السلام:



بنا عبد الله‏، وبنا عرف الله‏، وبنا وحّد الله‏، ومحمد حجاب الله تبارك وتعالى.[11]



ولیس ذلك من الله تعالى بالنسبة إلیهم إلا إكراما لشأنهم وإعظاما لحقهم، وإلا فلیس هناك امتناع ذاتي في أن یلهم الله تعالى العلمَ بوجوده كلَّ أحد بلا واسطه، ولكن الله تعالى لم یفعل ذلك بل اقتضى حكمته البالغة أن یجعل الرسول الأعظم وآله صلی الله علیه وآله ‏وسلم أبوابا لمعرفته ومحالا لتوحیده:



الإمام أمیر المؤمنین علیه السلام:



إن الله لو شاء لعرّف العباد نفسه، ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبیله والوجه الذي یؤتى منه.[12]



وسدَّ الأبواب إلا بابه فقال: أنا مدینة العلم وعلىّ بابها، فمن أراد المدینة والحكمة فلیأتها من بابها.[13]

فمن الباطل أن یقال: إنه یمتنع التعریف (بل الخلقة والإیجاد). من الله تعالى إلا بالواسطة بتوهم اقتضاء قاعدة إمكان الأشرف وحفظ مراتب الوجود، وأمثال ذلك من القواعد الفلسفیة الواهیة.


وعلى ما قدّمناه فتمسك القائل بعدم جواز الرجوع إلى المعصوم لإثبات وجود الخالق بلزوم التعبد والدور أو بتوهم خروج معرفة التوحید على هذا البیان عن كونه بالعقل ودخوله في ما یكون بالتعبد مما لا ینبغي التفوه به، فإنه لا منافاة بین كون المعرفة تفضلا من الله تعالى ومن أولیائه[14] محال معرفته وأبواب توحیده بالنسبة إلى من سواهم، وبین كونها عقلیة بعد توجیه المكلف إلى الموضوع اللائق بالإثبات من ناحیة الخالق تعالى:



«ولو لا فضل الله علیكم ورحمته ما زكى منكم أحد أبدا».[15]



الإمام الصادق علیه السلام:



الفضل، رسول الله صلی الله علیه وآله ‏وسلم ؛ والرحمة، أمیر المؤمنین صلوات الله علیه.[16]



فلا یعدّ العقل والبیان حجتان مستقلتان إحدیهما في عرض الأخرى حتى یصبح ما یحصل بالبیان تعبدیة، بل تقصر كل واحدة منهما بالاستقلال عن الحجیة والإفادة في طریق إثبات وجود الخالق المتعال، وهما معا تعدّان حجة واحدة:



«كذلك یبین الله لكم آیاته لعلكم تعقلون».[17]



«قد بینا لكم الآیات لعلكم تعقلون».[18]



«لقد أنزلنا إلیكم كتابا فیه ذكركم أفلا تعقلون».[19]



«لئلا یكون للناس على الله حجة بعد الرسل».[20]



إن الله أكمل للناس الحجج بالعقول، ونصر النبیین بالبیان.[21]



الإمام الصادق علیه السلام:

حجة الله على العباد النبي، والحجة في ما بین العباد وبین الله العقل.[22]







... ثم بین أن العقل مع العلم فقال: «وتلك الأمثال نضربها للناس وما یعقلها إلا العالمون».[23]



لا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة بالعلم، والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل یعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني ومعرفة العالم بالعقل.[24]



إن لله على الناس حجتین: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبیاء والأئمة علیهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.[25]



ما بعث الله أنبیائه ورسله إلى عباده إلا لیعقلوا عن الله‏، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنیا والآخرة.[26]



بالعقل استخرج غور الحكمة، وبالحكمة استخرج غور العقل.[27]



وفي خبر إبن السكیت قال: فما الحجة على الخلق الیوم؟ فقال الرضا علیه السلام: العقل، تعرف به الصادق على الله فتصدقه، والكاذب على الله فتكذبه.[28]

 الهوامش:

[1] . كنز الفوائد، 2 / 31؛ روضة الواعظين، 1 / 4؛ بحار الأنوار، 1 / 94 . 158.



[2] . بحار الأنوار، 1 / 88.

[3] . وعلى هذا التفسير فيكون قوله تعالى "أحسنه" مفعولا مطلقا لبيان كيفية الاتباع وليس بمفعول به، فلا تتوهمن أنه يجوز الرجوع إلى كل متكلم والاستماع منه.



[4] . البحراني،"قدس سره": العوالم، كتاب العلم، 81.



[5] . البحرانى، "قدس سره": العوالم، كتاب العلم والعقل، 83.



[6] . بحار الأنوار، 1 / 153؛ البحراني،"قدس سره": العوالم، كتاب العلم والعقل



[7] . بحار الأنوار، 3 / 273.



[8] . التوحيد، 290؛ بحار الأنوار، 3 / 273.



[9] . بحار الأنوار، 53 / 178.



[10] . التوحيد، 152.



[11] . بحار الأنوار، 23 / 102.



[12] . إثبات الهداة، 1 / 59، عن الكافي.

[13] . القمي: مفاتيح الجنان، دعاء الندبة



[14] . فلما رفع الصادق عليه السلام يده قال: الحمد لله رب العالمين، اللهم هذا منك ومن رسولك صلى‏ الله ‏عليه‏ و‏آله ‏وسلم، فقال ابو حنيفة: يا اأبا عبدالله أجعلت مع الله شريكا؟! فقال عليه السلام: ويلك إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: وما نقموا إلا أن أغنيهم الله ورسوله من فضله ويقول عزّ وجلّ في موضع آخر: ولو أنهم رضوا ما آتيهم الله رسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله. فقال أبو حنيفة: والله كأني ماقرأتهما قط من كتاب الله ولا سمعتهما إلا في هذا الوقت. فقال أبو عبد الله عليه السلام: بلى قد قرأتهما وسمعتهما ولكن ألله انزل فيك وفي أشباهك: "أم على قلوب أقفالها" وقال تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" بحار الانوار، 10/ 216 عن كنز الفوائد للكراجكي قدس سره، 196.





[15] . نور، 21.



[16] . بحار الأنوار، 9 / 194.



[17] . الأنبياء، 10.



[18] . آل عمران، 118.



[19] . الأنبياء، 10.



[20] . النساء، 165.



[21] . إثبات الهداة، 1 / 41.



[22] . إثبات الهداة 1 / 42.



[23] و العنكبوت، 42؛ البحراني: العوالم، كتاب العقل، 83.



[24] . إثبات الهداة، 1 / 41.



[25] . إثبات الهداة، 1 / 4.



[26] . الكافي، 1 / 16.



[27] . إثبات الهداة، 1 / 42.



[28] . بحار الأنوار، 1 / 105.



.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق