الخميس، 28 مايو 2015

مقدمة اعتقادات الصدوق (غلام رضا بن غلام حسين المازندراني )

                    

                               بسم الله الرحمن الرحيم


                                        تمهيد

في مسألة الاعتقادات الحمد لله الذي لم يكلنا في شيء من أمورنا إلى آرائنا وأهوائنا بل أمرنا باتباع نبيه وأهل بيته، وأوجب لنا في كتابه وعلى لسان نبيه بالرد إليهم والتسليم لهم وأخذ العلم عنهم - صلوات الله عليهم أجمعين - واللعن على أعدائهم ومنكري فضائلهم ومناقبهم وغاصبي حقوقهم دهر الداهرين. أما بعد: غير خفي على أهل الإيمان، إن أهم المسائل وأجدارها هي مسألة الاعتقادات وتصحيحها عن الشك والارتياب.
وإن هذا الأمر لما كان أهم المطالب الدينية في شريعتنا، قد تعين من الله ورسوله والأئمة المعصومين عليهم السلام الاعتناء والاهتمام بها، ولهذا نرى أصحاب الأئمة عليهم السلام خوفا من الضلال قد عرضوا عقيدتهم ودينهم لهم حتى يصححوها، كما قص عمرو بن حريث وعبد العظيم الحسني اعتقادهما ودينهما للإمامين الهمامين أبي عبد الله الصادق وعلي الهادي عليهما السلام. فلما كانت العقيدة وتصحيحها من أهم الضروريات فقد تصدى جماعة من قدمائنا المحدثين رضوان الله عليهم، بتصنيف كتاب مستقل وتبويب باب مخصوص من مرويات النبي والأئمة عليهم السلام في هذا الباب. كما لا يخفى ذلك على من راجع بصائر الدرجات والكافي والتوحيد وعيون الأخبار ونهج البلاغة والاحتجاج وأمثالها. وممن كتب في هذا المقام ودرج فيه جملة من الأخبار الشيخ الفقيه وعمدة المحدثين أبو جعفر، ابن بابويه القمي المشتهر بالصدوق رحمه الله، فإنه كتاب عقائد الشيعة المروية عن المعصومين عليهم السلام في الرسالة المستقلة وجعلها اعتقادا لمذهب الإمامية الاثني عشرية. وحيث أن هذا الكتاب لم يطبع بطبعة حديثة بحسب ما اطلعنا عليه فعمدنا إلى تجديد طبعه لتعم الفائدة ويسهل تناوله -
وإليك ما نذكر حول الكتاب ومؤلفة وبعض مسائل أخرى: كلمة حول الكتاب والمؤلف كتاب الإعتقادات للشيخ أبي جعفر الصدوق رحمه الله ذكر فيه جميع اعتقادات الفرقة الناجية، وفي كل باب من أبوابه أورد أحاديثا تتضمن ما قاله أئمة أهل العصمة عليهم السلام فعلى سبيل المثال قوله في باب الاعتقاد في الإرادة والمشيئة: قال الشيخ أبو جعفر: اعتقادنا في ذلك قول الصادق عليه السلام.. الخ: فيتضح لنا من خلال هذا أن هذا الكتاب من الكتب التي عنيت بالإشارة لما هو مروي عن الأئمة الأطهار عليهم السلام فاللائق بنا أن نعتمده لتصحيح ما وقع الاختلاف فيه من العقائد. وأما ما ذكره الشيخ الطهراني في الذريعة حيث قال: الإعتقادات للشيخ أبي جعفر.. أملاه في نيسابور في مجلس يوم الجمعة ثاني عشر شعبان سنة 368 لما سأله المشائخ الحاضرون أن يملي عليهم وصف دين الإمامية على وجه الايجاز ولذا سماه الشيخ في الفهرس بدين الإمامية، ذكر فيه جميع اعتقادات الفرقة الناجية - الخ . (الذريعة ج 2 ص 226 ط نجف) فهذا مطابق لما بين الصدوق من مذهب الإمامية فيما أملاه على المشائخ ويؤيده ما أورده العلامة المجلسي في البحار نقلا عن كتاب مجالسه، وما ذكر في الذريعة أنسب بكتاب المجالس لا هذا الكتاب. وأما ما قاله الشيخ الطوسي في وجه تسميته بدين الإمامية لعل المقصود منه هو هذا الكتاب أو ما أملاه الشيخ الصدوق في وصف دين الإمامية والموجود في كتاب مجالسه وهذا مما أحببت الإشارة إليه مما خطر ببالي القاصر والله أعلم بحقائق الأمور. وأما مؤلفه: الشيخ الأجل الأعظم، رئيس المحدثين، محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه أبو جعفر الصدوق القمي - قدس الله روحه - أمره في العلم والفهم والفقاهة والجلالة والوثاقة وكثرة التصنيف فأشهر من أن ينكر وأوضح  من أن يذكر. أبوه من الذين قد ورد من الإمام العسكري عليه السلام بحقه في توقيعه الشريف: يا شيخي ومعتمدي وفقيهي. ولد رحمه الله بقم بعد وفاة محمد بن عثمان العمري وكانت وفاته سنة 305 ه‍ بدعاء صاحب الزمان روحي له الفداء، وتوفي بالري سنة 381 ه‍ وقبره الآن بالري موجود. ولما كان اشتهاره كالشمس في رابعة النهار نكتفي فقط بما قاله الشيخ الطوسي - ره - في حقه، ومن أراد الاطلاع في أحواله وتصانيفه فليرجع إلى كتب الرجال. قال الشيخ في الفهرست: محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي، جليل القدر، يكنى أبا جعفر، كان جليلا حافظا للأحاديث، بصيرا بالرجال، ناقدا للأخبار، لم ير في القميين مثله في حفظه وكثرة علمه، له نحو من ثلاثمائة مصنف (الفهرست ص 156).
وهنا نشير إلى المسائل التي ينبغي الإشارة إليها:
المسألة الأولى: مسالك الناس في مسألة الاعتقادات:

إن للناس في هذه المسألة آراء متشتة وأهواء مختلفة وكل حزب بما لديهم فرحون. ومن أشهر الآراء والمسالك، مسلك أصحاب الكلام والحكماء والعرفاء ومن حذا حذوهم من الأنام، وكل هذه الفرق تدعي الحق وتنكر على من أنكرها وتقول: إن مرامنا ومذهبنا ليوصل الناس إلى الرب وإن حقيقة المعارف الإسلامية لا تنال إلا بالكلام والفلسفة والعرفان. ومن عقائدهم أيضا أنهم يقولون: وجب علينا لقوة الاستدلال والغلبة على الخصم، تحصيل الفلسفة والكلام وغيرها من الجدليات والأدلة الواهية، ولذا ضيقوا تحصيل المعارف وجعلوا خيالاتهم الحقائق.
مع أن النصوص المروية والاستدلالات الكثيرة من الأئمة عليهم السلام كاف عن أدلتهم وواف عن تعليم كتبهم. فيا ليتنا ثم يا ليتنا نعلم، أي شيء ألزمهم أن يتركوا علوم المعصومين عليهم السلام ويتمسكوا بالقواعد الأجنبية حتى يصيروها أصولا شرعية وأحكاما إلهية، أأنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم أم أنزل دينا تاما فقصر الرسول والأئمة عليهم السلام عن تبليغه وأدائه، هل نقص الكتاب والسنة حتى نحتاج إلى هذه القواعد لإلزام الخصم على ما يدعون، مع وفور إحتجاجات الأئمة عليهم السلام مع المخالفين من الدهرية والزنادقة والعامة وغلبتهم عليهم بالأدلة الإلهية الربانية والمسائل الفطرية الإلهامية دون الاصطلاحات الكلامية والشبهات الحكمية ولا الخدع العرفانية.
وقد قال مولانا الصادق عليه السلام: حاجوا الناس بكلامي فإن حاجوكم كنت أنا المحجوج لا أنتم (الإعتقادات للصدوق ص 22) فالواجب علينا التمسك بكلامهم وأخذ العلم عن لسانهم صلوات الله عليهم. وقد أجاد ما أفاد المحدث المتبحر، الحر العاملي - ره - في هذا المضمار، حيث قال: ومن تتبع أحاديث الأئمة عليهم السلام الواردة في مطالب الكلام، المروية في كتاب أصول الكافي والروضة والاحتجاج والتوحيد وعيون الأخبار وإكمال الدين وكتاب الغيبة ونهج البلاغة وأمثالها وهو كثير جدا، قدر على دفع جميع الشبهات بالأدلة التفصيلية، ولا يقدر أحد من المعاندين والملحدين وأعداء الدين على إلزامه ولا تشكيكه، فإن المخالفين ما زالوا يعترضون على الأئمة عليهم السلام فيجيبونهم بأجوبة إجمالية أو تفصيلية عقلية ونقلية فيها الكفاية (فوائد الطوسية ص 551).
وقال أيضا: لا يخفى أن الأدلة العقلية إذا وافقت الكتاب والسنة، كان كل واحد منهما مؤيدا للآخر فلا بأس بها، وقد كان النبي والأئمة عليهم السلام يستدلون بمثل ذلك والنصوص به متواترة، فتلك الأدلة المروية عقلية نقلية معتمدة موافقة للكتاب وهي من السنة، وذلك كاف عن الأدلة الواهية المأخوذة من الفلاسفة والملاحدة والعامة ونحوهم، والأدلة المشار إليها مروية في أصول الكافي وكتاب الاحتجاج
وكتاب التوحيد ونهج البلاغة وعيون الأخبار وبصائر الدرجات ونحوها، وفيها كفاية عن غيرها والله الموفق (إثبات الهداة ج 1 ص 61).
وهنا نذكر جملة من الروايات بوجوب الرجوع في جميع الأحكام إلى النبي والأئمة عليهم السلام وعدم جواز الاستقلال بالعقل والرأي والظن في الاعتقادات وغيرها: عن يونس بن عبد الرحمن قال: قلت لأبي الحسن الأول عليه السلام: بما أوحد الله عز وجل؟ فقال: يا يونس لا تكونن مبتدعا، من نظر برأيه هلك ومن ترك أهل بيت نبيه ضل ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر. (الكافي، باب البدع والمقائيس).
وعن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله قال: عنى الله بها من اتخذ دينه رأيه من غير إمام من أئمة الهدى (بصائر الدرجات ص 13).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام:.. إن المؤمن أخذ دينه عن ربه، ولم يأخذه عن رأيه.. (البحار ج 68 ص 309).
وعنه عليه السلام قال: من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس ومن دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس (الكافي باب البدع والمقائيس).
وعن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب، ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حق إلا ما خرج من عندنا أهل البيت، وإذا تشعبت بهم الأمور كان الخطأ منهم والصواب من علي عليه السلام (الوسائل ج 18 ص 46).
وفي حديث آخر عنه عليه السلام: كل ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل (بصائر الدرجات ص 511).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لكميل بن زياد في وصيته له: يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا (تحف العقول ص 119 ط بيروت).
وقال أبو عبد الله عليه السلام في حديث: أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منا (الوسائل ج 18 ص 47).
وعنه عليه السلام قال: والله ما جعل الله لأحد خيرة في اتباع غيرنا، وأن من وافقنا خالف عدونا، ومن وافق عدونا في قول أو عمل فليس منا ولا نحن منهم (المصدر ص 85).
وعن الرضا عليه السلام قال: شيعتنا المسلمون لأمرنا، الآخذون بقولنا، المخالفون لأعدائنا، فمن لم يكن كذلك فليس منا (المصدر ص 83).
وعن أبي جعفر عليه السلام في حديث في الإمامة قال: أما لو كان أن رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على الله حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان (المصدر ص 44).
وعنه عليه السلام قال: من دان الله بغير سماع عن صدق ألزمه الله التيه إلى يوم القيامة (بصائر الدرجات ص 14). وعن الحسين أنه سأل جعفر بن محمد عليهما السلام عن قول الله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم قال أولي الفقه والعلم، قلنا أخاص أم عام؟ قال: بل خاص لنا. وعن أبي جعفر عليه السلام قال: أولوا الأمر في هذه الآية آل محمد صلى الله عليه وآله (الوسائل ج 18 ص 52).
وقال النبي صلى الله عليه وآله في خطبته: إن الله عز وجل أنزل علي القرآن وهو الذي من خالفه ضل ومن ابتغى علمه عند غير علي عليه السلام هلك - إلى أن قال -: ومن طلب الهدى في غيرهم (يعني أهل بيته) فقد كذبني الخ (البحار ج 38 ص 94).
وقال أبو جعفر عليه السلام لسلمة بن كهيل والحكم بن عتيبة: شرقا وغربا فلا تجدان علما صحيحا إلا شيئا خرج من عندنا أهل البيت (الكافي ج 1 باب 160).
وغير ذلك من الروايات في وجوب طلب العلم والهداية من أهل بيت العصمة والطهارة.
قال العلامة المجلسي - ره -: ثم اعلموا أن الله تعالى لما أكمل نبيه صلى الله عليه وآله قال: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فيجب علينا بنصه تعالى متابعة النبي صلى الله عليه وآله في أصول ديننا وفروعه وأمور معاشنا ومعادنا، وأخذ جميع أمورنا عنه، وأنه صلى الله عليه وآله أودع حكمه ومعارفه وأحكامه وآثاره وما نزل عليه من الآيات القرآنية والمعجزات الربانية، أهل بيته صلوات الله عليهم، فقال بالنص المتواتر: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وقد ظهر من الأخبار المستفيضة أن علم القرآن عندهم صلوات الله عليهم (ثم قال): ثم إنهم صلوات الله عليهم تركوا بيننا أخبارهم، فليس لنا في هذا الزمان إلا التمسك بأخبارهم والتدبر في آثارهم، فترك أكثر الناس في زماننا آثار أهل بيت نبيهم واستبدوا بآرائهم (الإعتقادات ص 16).
وأما الروايات بالتحذير من علم الكلام وغيره من الأدلة التي لم تثبت عن أهل الوحي عليهم السلام كثيرة ونحن نذكر بعض هذه الروايات: عن محمد بن عيسى قال: قرأت في كتاب علي بن هلال إلى الرجل يعني أبا الحسن عليه السلام: إنهم نهوا عن الكلام في الدين فتأول مواليك المتكلمون بأنه إنما نهى من لا يحسن أن يتكلم فيه فأما من يحسن أن يتكلم فلم ينهه، فهل ذلك كما تأولوا أم لا؟ فكتب عليه السلام: المحسن وغير المحسن لا يتكلم فإن إثمه أكبر من نفعه (إثبات الهداة ج 1 ص 67).
وعن أبي عبيدة الحذاء قال: قال لي أبو جعفر عليه السلام: يا أبا عبيدة إياك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم، فإنهم تركوا ما أمروا بعلمه وتكلفوا ما لم يؤمروا بعلمه حتى تكلفوا علم السماء، يا أبا عبيدة خالط الناس بأخلاقهم وزائلهم بأعمالهم - الحديث (المصدر ص 68).
وعن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: دخل عليه قوم من هؤلاء الذين يتكلمون في الربوبية، فقال: اتقوا الله وعظموا الله ولا تقولوا ما لا نقول، فإنكم إذا قلتم وقلنا متم ومتنا، ثم بعثكم الله وبعثنا فكنتم حيث شاء الله وكنا (المصدر ص 66).
وعن يونس بن يعقوب أنه قال لأبي عبد الله عليه السلام في حديث: إني سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: وبل لأصحاب الكلام، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنما قلت: ويل إن تركوا ما أقول وذهبوا إلى ما يريدون (الوسائل ج 18 ص 45).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة فعليك بالرجوع إليها. ولا يخفى أن هذه الأحاديث صريحة فيمن استبد برأيه بعقله ولم يأخذ الكلام من الأئمة عليهم السلام، وأما من استمسك بهم واستدل بما ثبت عنهم صلوات الله عليهم أجمعين فقد أصاب الحق ويستغني من الأدلة التي مخالفة للآيات والروايات.
وقد قال الشيخ الحر العاملي - ره - بعد ما استدل بالآيات لعدم جواز العمل في الاعتقادات بالظنون والأهواء: وغير ذلك من الآيات الدالة على عدم جواز العمل بالرأي والظن والهوى والعقول الناقصة ومعلوم أن أدلة الكلام كلها أو أكثرها ظنية غير تامة، بل متعارضة متناقضة مخالفة للآيات والروايات واعتقادات الأئمة عليهم السلام غالبا - الخ (إثبات الهداة ج 1 ص 64).
ويناسب في هذا المقام لتميم الكلام أن نذكر جملة من كلام بعض الأعلام: قال العلامة المجلسي - ره - في البحار في آخر باب النار: بعد اتضاح الحق لديك فيما ورد في الآيات المتظافرة والأخبار المتواترة من أحوال الجنة والنار وخصوصياتها فلنشر إلى بعض ما قاله في ذلك الفرقة المخالفة للدين من الحكماء تفلسفين والم لتعرف معاندتهم للحق المبين ومعارضتهم لشرائع المرسلين (إلى أن قال بعد نقل كلماتهم) ولا يخفى على من راجع كلامهم وتتبع أصولهم أن جلها لا يطابق ما ورد في شرائع الأنبياء وإنما يمضغون ببعض أصول الشرائع وضروريات الملل على
ألسنتهم في كل زمان حذرا من القتل والتكفير
(ثم قال) ولعمري من قال: بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وكل حادث مسبوق بمادة وما ثبت قدمه امتنع عدمه وبأن العقول والأفلاك وهيولي العناصر قديمة، وأن الأنواع المتوالدة كلها قديمة وأنه لا يجوز إعادة المعدوم، وأن الأفلاك متطابقة، ولا تكون العنصريات فوق الأفلاك، وأمثال ذلك كيف يؤمن بما أتت به الشرائع ونطقت به الآيات وتواترت به الروايات - الخ (البحار ج 8 ص 326 و328).
وقال أيضا: هل رأيت في كلام أحد من الصحابة والتابعين أو بعض الأئمة الراشدين لفظ الهيولى أو المادة أو الصورة أو الاستعداد أو القوة؟ والعجب أن بعض أهل دهرنا ممن ضل وأضل، كثيرا يتمسكون في دفع ما يلزم عليهم من القول بما يخالف ضرورة الدين إلى أمثال هذه العبارات - الخ (البحار ج 40 ص 173).
وقال (ره) في رسالة الاعتقادات: فمنهم من سلك مسلك الحكماء الذين ضلوا وأضلوا، ولم يقروا بنبي ولم يؤمنوا بكتاب واعتمدوا على عقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة (إلى أن قال) فهم يؤولون النصوص الصريحة الصحيحة عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم بأنه لا يوافق ما ذهب إليه الحكماء (ثم قال) ومعاذ الله أن يتكل الناس إلى عقولهم في أصول العقائد فيتحيرون في مراتع الجهالات ولعمري أنهم كيف يجترؤون أن يؤولوا النصوص الواضحة الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة، لحسن ظنهم بيوناني كافر لا يعتقد دينا ولا مذهبا . (الإعتقادات ص 17 ).
ونقل المحدث الحر العاملي - ره - عن رسالة للشهيد الثاني - ره - بأنه قال في تعلم علم الكلام: اعلم أنه علم إسلامي وضعه المتكلمون لمعرفة الصانع وصفاته العليا، وزعموا أن الطرق منحصر فيه أو هو أقرب الطرق، والحق أنه أبعدها وأصعبها وأكثرها خوفا وخطرا ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وآله عن الغور فيه حيث إنه مر على شخصين متباحثين على مسألة كالقضاء والقدر، فغضب صلى الله عليه وآله حتى احمر وجناه.. ثم قال: وليت شعري إن هؤلاء الجماعة يعني المتكلمين هل لهم دليل عقلي أو نقلي على وجوبه أو استحبابه أو مجرد تقليد؟ وهل يقرون بإيمان السابقين على تدوينه أو ينكرون؟ وهل يعترفون بإيمان العوام الغافلة عنه أو لا يعترفون؟ فإن أقروا واعترفوا فما فائدته؟ وإلا فكيف معاشرتهم بالرطوبات مع اعتقادهم بأن عدم المعرفة بالأصول كفر والكافر نجس، وكيف يجوز الاشتغال بالمباح والسنة مع استلزامهما ترك الواجب؟ وكيف يجوز الاشتغال بالواجب مع استلزامه ترك ما هو أوجب؟ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون - انتهى، ثم ذكر في ذم المنطق كلاما طويلا (إثبات الهداة ج 1 ص 68).
ومن الذين شدد التنكير على كسب الاعتقاد من غير طريق النبي والأئمة الأطهار واكتفى بمجرد الفطرة لمعرفة رب الأرباب ورد المتكلمين وأمثالهم، السيد الجليل ابن طاووس (ره) في وصاياه لابنه في كتاب كشف المحجة لثمرة المهجة، وهو رحمه الله - بعد ما أوصى ولده في مسألة العقائد وحذره عن علم الكلام وما فيه من الشبهات وإنه من جملة الطرق البعيدة والمسالك الخطيرة الشديدة التي لا يؤمن معها ما يخرج بالكلية منها -، أمره بالرجوع إلى آثار النبي والأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين، حيث قال: فانظر إلى كتاب نهج البلاغة وما فيه من الأسرار، وانظر كتاب المفضل بن عمر الذي أملاه عليه مولانا الصادق عليه السلام فيما خلق الله جل جلاله من الآثار، وانظر كتاب الاهليلجة وما فيه من الاعتبار، فإن الاعتناء بقول سابق الأنبياء والأوصياء والأولياء عليهم أفضل السلام موافق لفطرة العقول والأحلام . (كشف المحجة ص 9).
وقال (ره) أيضا: فأوصيك يا ولدي محمد ومن بلغه كتابي هذا ممن يعلم المسترشدين إلى معرفة رب العالمين أن يقوى ما عندهم في الفطرة الأولية بالتنبيهات العقلية والقرآنية والهدايات الإلهية والنبوية (ثم قال) ثم يسلك به سبيل معرفة النبوة والإمامة على قاعدة تعريف النبي والأئمة صلوات الله عليهم ومن سلك سبيلهم من أهل الاستقامة، فهذا كان كافيا لمن يريد تحصيل السلامة وسعادة الدنيا ويوم القيامة . (المصدر ص 23).
وكلام العلماء حول هذا الموضوع طويل ولو لا خوف الإطالة لنقلناه، فعلى هذا إن أصح الاعتقادات وأصوبها ما يؤخذ عن مشكاة النبي والأئمة عليهم السلام لا بالتعلم من العلوم المذمومة والمضيعة للعمر والمولدة للشكوك والعقائد الفاسدة، والتكلم بالاصطلاحات المغلقة والكلمات الصعبة لإظهار المباهاة - أعاذنا الله منها - وإن العقل حجة في معرفة الله وحججه لا أنه مغن عن حججه، فالواجب علينا الاعتقاد بما اعتقده الأئمة عليهم السلام والتسليم لهم وأخذ العلم عنهم. قال المحدث الحر العاملي ره -: بأنه لو لا ذلك (يعني أخذ العقائد الدينية عن النبي والأئمة) لزم صحة جميع الاعتقادات الباطلة وحقية جميع المذاهب الفاسدة، لأن أربابها قد قلدوا أسلافهم وآبائهم وقد استدلوا عليها بأدلة ظنية بآرائهم، وعلموا فيها بعقولهم، وبطلان اللازم والملزوم واضحان ظاهران والله المستعان (إثبات الهداة ج 1 ص 71).

المسألة الثانية: في صحة هذا الكتاب وأمثاله من كتب الثقات: لا شك عند ذوي العقول والأذهان وأهل الاطلاع والبرهان بعد ما غاب عنا شمس الإمامة وكوكب الولاية قد أمرنا بالرجوع إلى رواة الأخبار والاعتماد على كتب الثقات الأخبار كما نطق به توقيع إمام الإنس والجان صلوات الله عليه وعلى آبائه الأطهار. وفي ابتداء الغيبة كان رجوع الناس إلى رواة الأحاديث وكتبهم، لأخذ المسائل الشرعية من الأصلية والفرعية. وهم لا يشكون بل ينقلون ويعملون بما فيها من الأخبار ويعتمدون ما رووه من الآثار، لأن التشكيك في ما يرويه الثقة الذي أخذه من الكتب المعتمدة وقطع على صحتها أو صحة مضمونها، قد منع من قبل الصادقين عليهم السلام كما في التوقيع المقدس حيث يقول عليه السلام: ليس لأحد من موالينا التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا. وفي هذه العجالة ننقل ما قاله المحدث المتبحر الفاضل الشيخ حسين الكركي العاملي رحمه الله، في كتابه هداية الأبرار إلى طريق الأئمة الأطهار وهو (ره) قد أطنب الكلام في هذا المرام وصوب طريق القدماء في الأخذ بالأخبار واستدل في أكثر الموارد فيه بصحة كتب الثقات، وأبطل طريق المتأخرين لتمسكهم بتنويع الحديث والدراية لأخبار الأئمة الأطهار، ولله در مؤلفة حيث أخلص النية لإيضاح سبيل الهدى وأصاب ما أصاب جزاه الله عن الإسلام خير الجزء. وخذ هذا من مقاله وتأمل في كلامه حشره الله مع إمامه. قال (ره): إن القدماء صرحوا بأن الأخبار المنقولة في الكتب المعمول عليها عندهم مقطوع على صحتها أو صحة مضمونها، إما بالتواتر أو بقرائن توجب العلم والعمل بها لثبوت ورودها عن المعصومين عليهم السلام سواء رواها عدل أو غيره وإن كثيرا من الرواة كانت مذاهبهم فاسدة ولكن كتبهم معتمدة، الخ (هداية الأبرار ص 7). وقال أيضا: وإنهم لم يقبلوا إلا ما قطعوا بصحته، لضبطهم وتقواهم وقرب زمانهم من زمان الأئمة (ع) الموجب لسهولة الاطلاع على أحوال الأخبار (المصدر ص 53). وقال: إن اعتماد الفقهاء لم يكن على السند وحده، ولم يكونوا يحكمون بصحة حديث إلا بعد القطع بذلك لأن أكثر الأخبار كانت عندهم متواترة، أو في حكم المتواترة، لقرائن دلت على ذلك (المصدر ص 56). وقال (ره) ردا على من اعتمد على كتب الرجال أو الظنون ولا يرضى بما نصه القدماء في صحة كتبهم: ... إنك تعمل بالظن، والظن الحاصل من هذه الأخبار التي نص أئمة الحديث على صحتها وعملوا بها... ليس بدون الظن المستند إلى ما اعتبرته من البراءة الأصلية والعمومات والاطلاقات المظنونة الدلالة والاعتبارات العقلية التي لا تكاد تسلم قاعدة منها عن الطعن وغاية ما ينتهي إثباتها إلى مقدمة خطابية إن قبلها الوهم تردد فيها العقل، فأخبرني أي الظنين أسلم؟ ظن يستند إلى ما صرح أكابر القدماء بأنه قول المعصوم، أم ظن يرجع إلى قاعدة مخترعة، إن وافقها المجتهد اليوم خالفها غدا، لضعفها وتزلزلها، أو إلى عموم وإطلاق من دون نظر إلى مخصص أو مقيد، ويلزمك من القول بعدم الوثوق والاعتماد على أفكار القدماء هاداتهم واجت وضبطهم، ألا تعتمد على حكمهم بعدالة الراوي الذي اعتبرت قوله لأن ذلك إنما نشأ عن تتبع أحوال الرواة حتى حكموا بالجرح والتعديل وذكروا ذلك في كتبهم مرسلا، لأنهم لم يروا الرواة بل عرفوا أحوالهم بالنقل وتعاضد القرائن الدالة على صدقه فأخبروا عما قطعوا بصحته وشهدوا بمطابقته للواقع بحسب ما تحقق عندهم، فقبول قولهم في هذا دون غيره مما يتعلق بصحة الأخبار وضعفها، مع اتحاد الطريقين تحكم، وأي فرق بين أن يقول النجاشي أو العلامة مثلا فلان ثقة، وأن يقول الصدوق مثلا الحديث الفلاني صحيح مع علمه بضعف رواته؟ (ثم قال) والكليني والصدوق والشيخ الطوسي، ليسوا دون العلامة وأتباعه في معرفة الرجال والصادق منهم والكاذب، فلو لم تظهر قرائن توجب القطع بصحة ما نقلوه من أخبار المجروحين لما حكموا بصحته (المصدر ص 53 و54).
وقال أيضا: وهل يظن الكليني والصدوق والشيخ أن يلفقوا كتبهم من صحيح وغيره، مع تمكنهم من نقل الأحاديث الصحيحة من الكتب التي لخصوا كتبهم منها (ثم قال) ومن غريب أمور المتأخرين: أنهم وجدوا توثيق رجل في كتاب من كتب الرجال ولم يطلعوا له على جرح قطعوا بعدالته وصحة حديثه، مع أن الذي وثقه لم يره، وإنما وثقه لقرائن اقتضت عند الحكم بتوثيقه أداه إليها تفحصه واجتهاده فالتوثيق في كتب الرجال - الآن - من جملة الأخبار المرسلة التي دلت القرائن والشهرة على صدقها، وإذا رأوا حديثا في هذه الكتب مرسلا أو مسندا يشتمل سنده على مجروح أو مجهول، أعرضوا عنه إذا خالف قواعدهم (المصدر ص 59). وكلامه في هذا الباب طويل لا يسعنا نقله ونرجوا من القارئ الكريم الرجوع لهذا الكتاب النفيس الذي هو وحيد في أسلوبه وسلاسته. فعلى هذا فثبوت تلك الأخبار والوثوق بورودها عن أئمة الأطهار التي نقلها قدمائنا الأبرار مثل الكليني والصدوق والطوسي وغيرهم مما لا ينبغي فيه الشك والارتياب، لأن هؤلاء أقطاب الدين وأركانه الذين قد بذلوا جهدهم في تنقيح الأخبار وما لنا طريق للوصول إلى أحاديثهم عليهم السلام إلا بما نقلوه من الآثار، فهم الجسر بيننا وبين أئمتنا. فالواجب علينا الاعتماد على ما رووه في كتبهم، لأنهم ما نقلوا شيئا إلا بعد القطع بصحته، وإياك أن تظن أنهم لفقوا كتبهم من الصحيح وغيره مع اشتهار وثاقتهم وتقواهم عند الخاص والعام، لأنك إن ظننت هذا فعلى أي شيء تعتمد؟ وإلى أي شيء تراجع للعمل بالأحكام الفرعية والاعتقاد بالأصول الدينية؟ كما أشار إلى ذلك المحدث الشيخ يوسف البحراني في اللؤلؤة حيث قال في ترجمة صاحب المعالم بعد ذكر اصطلاح الحادث في تقسيم الأحاديث: هذا الاصطلاح الذي هو إلى الفساد أقرب من الصلاح حيث إن اللازم منه لو وقف عليه أصحابه لفسدت الشريعة وربما انجر إلى البدع الفظيعة، فإنه متى كان الضعيف باصطلاحهم من إضافة الموثق إليه كما جرى عليه في المدارك ليس بدليل شرعي، بل هو كذب وبهتان مع أن ما عداهما من الصحيح والحسن لا يفيان لهما إلا بالقليل من الأحكام فإلى م يرجعون في باقي الأحكام الشرعية ولا سيما أصولها وفضائل الأئمة وعصمتهم وبيان فضائلهم وكراماتهم ونحو ذلك (ثم قال) والواجب إنما الأخذ بهذه الأخبار كما هو عليه متقدمو علمائنا الأبرار، أو تحصيل دين غير هذا الدين وشريعة أخرى غير هذه الشريعة - إنتهى (اللؤلؤة ص 46).
وحاشا الصدوق ثم حاشا أن يقول ويعتقد بشيء من غير دليل من الكتاب والسنة، لأنه رئيس المحدثين وثقة معتمد عليه وولد ببركة دعاء صاحب الأمر ولقب بالصدوق وهو لا يتبع ولا يقول إلا عن المعصوم وما يعتقد إلا بما اعتقده عليه السلام وعدم السهو والنسيان مخصوص بمن لا ينطق عن الهوى. وقد أجاد المجلسي الثاني في البحار بعد ما ذكر فيما بين الصدوق من مذهب الإمامية، قال (ره): وإنما أوردنا ها لكونه من عظماء القدماء، التابعين لآثار الأئمة النجباء الذين لا يتبعون الآراء والأهواء، ولذا ينزل أكثر أصحابنا كلامه وكلام أبيه (رض) منزلة النص المنقول والخبر المأثور (البحار ج 10 ص 405).
وقال أيضا في مقدمة شرحه على التهذيب: والذي يقوى عندي وأوردت دلائله في الكتاب الكبير هو أن جميع الأخبار الموردة في تلك الأصول الأربعة وغيرها من تأليفات الصدوق والبرقي والصفار والحميري والشيخ والمفيد وما تيسر لنا بحمد الله من الأصول المعتبرة المذكورة في كتب الرجال - وقد أدخلت أخبارها في كتاب البحار كلها - مورد العمل وأقوى من الأصول العقلية والاستحسانات والقياسات المتداولة بين بعض المتأخرين من الأصحاب - إلى آخر كلامه زاد الله في مقامه - (ملاذ الأخيار ج 1 ص 27).
وقال أبوه المجلسي الأول (ره) في شرحه على الفقيه بعد نقل كلام الشيخ البهائي في بيان تغاير اصطلاحات المتقدمين مع المتأخرين: فإن تصحيحهما (يعني الكليني والصدوق) لا يقصر عن توثيق الرواة من واحد من علماء الرجال كالشيخ والنجاشي والكشي، فإن الظاهر من تصحيحهم الحديث، القول بأنه قال المعصوم يقينا، كما هو الظاهر من تتبع كلامهم - الخ (روضة المتقين ج 1 ص 20).
وهنا لنختم الكلام وفيه الكفاية لمن أراد الهداية. فيا إخواني المؤمنين هلموا إلى هذا الكتاب لتصحيح عقائدكم. ويا يها أ الآباء والأمهات علموا أطفالكم أحاديث الأئمة عليهم السلام وصححوا عقائدهم بكلماتهم قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة. ويا طالبي العلم ومدعي الفضل والكمال، عليكم بهذا الكتاب ومطالعته ومدارسته وارفضوا القيل والقال وتكلفات المقال بمعونة هدى الذين قد نزل في بيتهم الكتاب - جعلنا الله وإياكم من المتمسكين بعروتهم الوثقى التي لا انفصام لها.
تم الفراغ في شهر شوال المكرم 1412 ه‍ في قم المقدسة، على يد الحقير الفاني غلام رضا بن غلام حسين المازندراني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق